إن عدنا للبديهيات نكرّر أن العقل يوجه حامله للعمل. وتوجه العقل مرتبط بما يدخله من فكر. والفكر الذي يملأ عقل المؤمن هو قناعات حصل عليها وراثيا من أهله واكتسبها بالعِشرة من أصدقائه ومجتمعه. وتضاف إليها قناعات ومفاهيم تلقنها أو درسها أو قرأها أو سمعها في الكنيسة من عظات وتعاليم ودراسات يتم تداولها أو ما سنطلق عليها بمفهومها الخام باسم "لاهوت" أضف الى ذلك يصبح اللاهوت والفكر العدسة التي من خلالها نفسر الكتاب وهذا اضاً لاهوت.
ويخطئ من يعتقد ان هذا اللاهوت ينحصر في التعليم في مجال "روحي" بينما لا يتطرق لباقي نواحي الحياة -لا المجتمع ولا الاقتصاد ولا السياسة.
انه لخطأ جسيم الا يعترف المرء ان للآراء اللاهوتية اسقاطات على المواقف السياسية. وهذا صحيح ليس فقط في بلادنا وليس فقط بما يتعلق بلاهوت آخر الايام. وانما في كل بلد وبما يتعلق بكل تفرع لاهوت ما.
فلاهوت الازدهار مثلا يتجاهل الحاجات الاجتماعية المختلفة ويربط بشكل فظ بين البركة الجسدية وبين رضى الله. شئنا أم أبينا لكن هذا يوافق ويقدم الفكر الاقتصادي الذي يعتمد على المبادرة الاقتصادية الشخصية او الرأسمالية التي تبيح امكانية النجاح الاقتصادي الباهر.
اما المواقف اللاهوتية التي تشدد على العلاقة مع الله وتهمل التطبيق الافقي المتعلق بعلاقة المؤمن بأخيه الانسان، فهي ايضا لها اسقاطات. فهي تقود الى "اللا موقف" اذ يترفع من يؤمن بها عن التدخل من قريب او بعيد بالمجتمع المدني، وتسود عنده حالة تقوقع او "حياد" مزعوم وهو ما يطلقون عليه خطأ "اللا سياسة" مع انه موقف سياسي معروف وواضح: دعم الوضع السياسي القائم على نواحيه السلبية او الايجابية.
وهذا صحيح ايضا بما يتعلق بموقف المؤمن المحلي في بلادنا ازاء هويته وهي تتأرجح بين العربية والفلسطينية والاسرائيلية والمسيحية وكل ذلك في بلد يعاني من صراع قومي وربما ايضا ديني. فالموقف اللاهوتي الذي ينادي بالحياد بخصوص لاهوت اسرائيل مثلا قد ترك الحلبة للمواقف الاخرى وعزل نفسه عن مجتمعه او دولته. لقد بارك بهذا ودعم الحال الحاضر حتى لو اشتمل ظلما!
وهناك الموقف اللاهوتي بما يختص بسيادة الله المطلقة مقابل اللاهوت الذي يضع ثقلا ايضا على دور الانسان. اصحاب الموقف الاول سيقبلون بسهولة اكثر او بالأحرى يسلّمون بالتغييرات السلطوية الحاصلة عن طريق الاحتلال او الانقلاب مثلا، بينما مؤيدو الثانية سيميلون للموقف الذي يرى اهمية لدور المؤمن الفعال في معارضة او مساندة التغيير الحاصل.
ان كنه نظرتنا لموضوع ملكوت الله ودور المؤمن في نشر قيم ذلك الملكوت، تحكم الدور الذي نقوم او لا نقوم به في حاراتنا ومدننا وحتى بلادنا في نشر قيم الملكوت. فاذا نادينا بضرورة سيادة الامانة ونظافة اليد مثلا في كل مناحي الحياة، فعندها سيسعى المؤمن للمطالبة بسيادتها خارج الكنيسة وحتى في الحكومة بتفرعاتها المختلفة فيها. اما من اعتبر سيادة هذه القيم امرا ثانويا، فانه لن يلتفت الى اي فساد في البلد فبحسب موقفه- هذه شؤون العالم الذي وضع للشرير وللمؤمن دور اسمى في خلاص النفوس مثلا.
في نهاية المطاف كل الكنائس الانجيلية تدّعي انها تطبق الكتاب المقدس باكملة مع انها في نهاية الامر تشدد على ناحية فيها على أخرى او تأخذ موقفاّ دون الآخر في المجالات الروحية. ان ما خلصت عليه هو ان هذا التشديد او الخيار اللاهوتي مهما كان، له نتائج وتأثيرات على كل نواحي الحياة، السياسية منها وغيره.