سأتحدث عن الكتاب المقدس الذي يحوي تسعة كُتب ولهذا سميته التُساعي. لا شك أن العهد القديم لم يُكتب من شخص واحد أو بفترة زمنية واحدة. ولا شك أن أسفار العهد القديم نمت مع الزمن في فتـرة القانون المفتوح، أي الزمن الذي زودنا الله فيه بوحي مكتوب لكل الأجيال وحتـى انقضاء الدهر. وهو الزمن الذي يسبق فتـرة القانون المغلق حيث توقف نمو مضمون وعدد الأسفار المقدسة الموحاة بها ولم يتمكن أي إنسان من إضافة أسفار أخرى. ومن هذا المنطلق، لا عجب أن نتحدث عن أسفار موسى الخمسة كالكتاب المقدس الموسوي. ثمَّ أُضيفت أسفار أخرى إلى هذا الكتاب عبـر الزمن. ويشدد دارسو العهد القديم على أهمية الأسفار التي تحوي التاريخ في العهد القديم. ولكن من المهم أن نفهم فلسفة التأريخ (كتابة التاريخ) وهدفها حتى نفهم الكتب بدقة أكبـر. وسأركز في هذا المقال على الجزء المعروف بالكُتب التسعة. وهي مرحلة أبعد من الكتب الخمسة الأولى في تاريخ تشكيل الأسفار القانونية.
الكتب التسعة هي تكوين، خروج، لاويين، العدد، التثنية، يشوع، قضاة، صموئيل، والملوك. وفي المخطوطات العبرية القديمة جمعوا صموئيل الأول والثاني في كتاب واحد وجمعوا ملوك الأول والثاني في كتاب واحد. أما المخطوطات اليونانية فلقد كانت أكبـر حجما بسبب كتابة أحرف العلة التـي كبّـرت حجم المخطوطة فاضطر الناسخون إلى تقسيم السفر إلى جزئين (صموئيل الأول والثاني، ملوك الأول والثاني). ولقد افتقرت المخطوطات العبرية القديمة إلى التنقيط مما قلل أيضا من حجمها.
وعندما نفحص الكتب التسعة سنجد أنها وحدة واحدة لعدة أسباب. أولا، نجد تواصل أسفار موسى الخمسة إذ يبدأ يبدأ سفر الخروج بحرف الواو ليصله بالسفر الذي يسبقه. ويتكرر الأمر في سفر اللاويين، والعدد. ويظهر الأمر نفسه في سفر التثنية في عدد من الترجمات القديمة. كما أن نهاية سفر العدد تقول: "هذه هي الوصايا والأحكام التي أوصى بها الرب إلى بني إسرائيل عن يد موسى، في عربات موآب على أردن أريحا" (عد 36: 13) ويبدأ سفر التثنية بكلام موسى ليسرائيل في عبـر الأردن مما يعمّق التواصل بين السفرين. ثانيا، ينتهي سفر التثنية بالحديث عن موت موسى. ويبدأ سفر يشوع بنفس الموضوع. ثالثا، ينتهي سفر يشوع بالحديث عن موته ويبدأ سفر القضاة بنفس الموضوع. رابعا، ينتهي سفر القضاة بالتأكيد أنه لم يكن ملك في يسرائيل ويستهل سفر صموئيل صفحاته بالحديث عن النبي صموئيل، آخر القضاة الذي صار صانعا للملوك. وهكذا ظهر أول ملوك مملكة يسرائيل المتحدة عندما مسح صموئيل شاول ملكا. خامسا، ينتهي سفر صموئيل بالحديث عن داود ويبدأ سفر الملوك بوصف نهاية داود وموته. وينتهـي سفر صموئيل بالسبي البابلي. وهذا هو التاريخ الأساسي في الكتاب المقدس التُساعي.
وعندما نتأمل في الكتاب المقدس التُساعي، سنكتشف أن سفر التكوين يتحدث عن البدايات ويصف السفر الثاني الخروج من مصر ثم خيمة الاجتماع أي مكان العبادة. ويشرح سفر اللاويين طريقة العبادة. ويبين سفر العدد الإحصائيات (راجع عدد 1، 26) ولكنه يشدد أيضا على تمرد الشعب وتيهانه في البرية بين سيناء وقادش برنيع. أما سفر التثنية فهو مركزُ الأحداث أي العهد مع الله الذي يجمع التاريخ الماضي (تكوين – عدد) والتاريخ القادم (يشوع – ملوك).
وسنجد أن مركز التاريخ الأساسي هو سفر التثنية الذي يقع في منتصف الكتاب التُساعي. ويشدد هذا السفر على أهمية الالتـزام بالعهد مع الله وعلى لاهوت المجازاة. لم يتكون الكتاب التُساعي للدلالة على عظمة ملوك يسرائيل أو بهدف إخافة الأمم أو لمجرد تدوين الأحداث، بل لشرح المصير الصعب الذي وصل إليه الشعب. فلقد كسروا العهد مع الله وانتهـى بهم الأمر في السبي. فمن يلتـزم بالعهد الإلهي سينال البركات الربانية ومن يكسر العهد ستحل عليه اللعنات. وفي منظور اللاهوت التثنوي، إن التجذر في أرض الموعد والبركة الإلهية يعتمد على الطاعة، أما العصيان فسيقود إلى السبي. وهكذا نستطيع أن نفهم خاتمة هذه الأسفار إذ ينتهـي المطاف بالسبي في سفر الملوك الثاني. وقد يتساءل البعض: ماذا عن سفر راعوث الذي يقع بعد سفر القضاة؟ ربما تكمن الإجابة في رؤية السفر كتوسع لشرح أيام حكم القضاة كما ورد في بداية سفر راعوث. ولكي نفهم هذا الكتاب المقدس التُساعي، علينا أن نستثمر الوقت الكافي لفهم سفر التثنية. العهد مع الله هو روح هذا السفر. ولا ضير من القول أن روح الروح هو: اسمع يا إسرائيل: الرب إلهنا رب واحد. فتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك (تثنية 6: 4 – 5).