اتصلت بي بالأمس صحفيّة أمريكية من موقع صحفي معروف، تسألني عن رأيي كقائد مسيحي فلسطيني من جماعة مسيحية أمريكية متصهينة تسعى لبناء هيكل يهودي على موقع الحرم الشريف، وتدعو انطلاقًا من منطلق مسيحي كتابي – كما يدّعون – لإعطاء السيطرة الكاملة لليهود على القدس. وكان سؤالها عن تفسيرنا أو نظرتنا للكتاب المقدس كمسيحيين فلسطينيين أمام هذه التفسيرات والادعاءات.
طبعًا هذا الأمر ليس بالجديد علينا، وهذه الجماعة ليست الأولى ولا الأخيرة (للأسف). ونصّنا لليوم، للوهلة الأولى، يبدو وكأنه يؤيد هذا الفكر. فالله هنا يقود العبرانيين من مصر إلى أرض الميعاد، الأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً، ويحدّد بأنها أرضُ "الْكَنْعَانِيِّينَ وَالْحِثِّيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْفِرِزَّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ." فهل هذا تأكيدٌ على أن الله أعطى هذه الأرض لليهود؟
قبل أن نتعامل مع النّص، أريد أن أتسائل (وهو مما قلته لهذه الصحافية). أهكذا نتعامل اليوم مع الصراع في هذه الأرض؟ هل يكمن الحلّ فيما قاله نصّ دينيّ قبل آلاف السنين عن ملكيّة الأرض؟ هل نعتمد أن الله ربّ الكون أعطى بقعة جغرافية ما لشعب ما قبل آلاف السنين كملكٍ أبديّ مهما حصل، وأننا اليوم نستطيع تحديد أحفاد هذا الشعب بعد آلاف السنين – ولذا لهم الحقّ في طرد من سكن على هذه الأرض لمئات وحتى آلاف السنين؟ حقًّا؟ هل هذا منطقنا؟
إضافة إلى ذلك، مفهومنا الكتابيّ لا يمكن أن يكون أنّ الله مع إسرائيل دائمًا وأبدًا بغضّ النظر عن العوامل والزمن وحتى عن موقف الشعب الأخلاقيّ! ألا يجعل هذا الله متساهلاً وغير مسؤولاً! حقًّا؟ ألا يكترث الله لحالة الشعب؟ لا عجب أنّ من تبنّى هذا الموقف يقول: "أنا لا أومن بوجود الله، ولكنني أومن بأنه أعطانا نحن اليهود أرضَ الميعاد!" – وهي مقولة لأحد قادة الحركة الصهيونية.
كما ترون إذًا، يتعلّق الأمر بمفهومنا لله وطبيعته. "من هو الله وكيف أعلن عن نفسه؟" – هذا هو السؤال. ونصّ اليوم في الواقع يعطينا نظرة مهمّة عن الله وطبيعته. الله هنا يتكلّم مع موسى في البرية، عندما كان هاربًا من مصر. كان حينها الشعب واقعًا تحت مذّلة العبودية في مصر. كان العبرانيين مستعبدين من قبل الفراعنة، ل 400 عام. نتذكر هنا أن الله لم يخلق الإنسان ليتسلّط على أخيه الإنسان! فالكلّ مخلوقٌ على صورة الله ومثاله. وكلنا متساوين في الخلق والكرامة. وقد وكّل الله الإنسان للعناية بالخليقة ولكي يأتي بالنظام والحُكم على الأرض بالنيابة عنه. أما الإنسان، فحوّل هذه الوكالة الإلهية إلى تفويض باستعباد الضعيف – إن كان الضعيف هو الفقير أو الغريب أو اللاجئ (كما العبرانيين هنا) أو حتى المختلف عنا بالدين والثقافة والنسب.
نصّ اليوم يذكرنا بأن الله لا يرضى ولن يسكت إلى الأبد عن هذا الأمر. وهكذا نقرأ اليوم: "إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَذَلَّةَ شَعْبِي الَّذِي فِي مِصْرَ وَسَمِعْتُ صُرَاخَهُمْ مِنْ أَجْلِ مُسَخِّرِيهِمْ. إِنِّي عَلِمْتُ أَوْجَاعَهُمْ، 8فَنَزَلْتُ لأُنْقِذَهُمْ مِنْ أَيْدِي الْمِصْرِيِّينَ".
هذا هو إلهنا! هذا هو إله الكتاب المقدس! إنّه الله الذي يسمع صراخ الإنسان ويرى المذلّة. إنه الإله الذي يحامي عن الضعيف والمظلوم. "تَأَوُّهَ الْوُدَعَاءِ قَدْ سَمِعْتَ يَا رَبُّ. تُثَبِّتُ قُلُوبَهُمْ. تُمِيلُ أُذُنَكَ. لِحَقِّ الْيَتِيمِ وَالْمُنْسَحِقِ، لِكَيْ لاَ يَعُودَ أَيْضًا يَرْعَبُهُمْ إِنْسَانٌ مِنَ الأَرْضِ" (مزمور 17:10-18). "جَمِيعُ عِظَامِي تَقُولُ: يَا رَبُّ، مَنْ مِثْلُكَ الْمُنْقِذُ الْمِسْكِينَ مِمَّنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَالْفَقِيرَ وَالْبَائِسَ مِنْ سَالِبِهِ؟" (مزمور 10:35).
رسالة اليوم ليست أنّ الله يختار شعبًا ضدّ الشعوب الأخرى مهما كان، وينحاز معهم، ودائمًا وأبدًا. رسالة اليوم هي أنّ الله يسعى لتحرير الإنسان، ويهتمّ بالعدل، ويرفضُ تجبّر القوي. رسالة اليوم هي أنّ الله يسمع صراخ المتألم والمظلوم، وهو يشعر بأوجاع المتألمين! رسالة اليوم هي أن الله منحازٌ مع المظلوم!
في الواقع، ألهمت هذه الآيات من سفر الخروج الكثيرين للتكلّم عن إله التحرير أو لاهوت التحرير، مشدّدين على أن الخلاص في المسيحية هو أكثر من مجرد خلاص الفرد من دينونة الخطيئة. فالله – إضافة إلى كونه مخلّص الإنسان من الخطيئة – هو أيضاً محرّر الإنسان ومنصفه أمام ظلم الإنسان. لم يخلق الله الإنسان كي يستعبد أخاه الإنسان، فالله ضد كل أنواع الظلم والتسلّط. نتذكر هنا بأن المسيح نفسه في بداية خدمته على هذه الأرض اقتبس من نبوة أشعياء عن التحرير من الظلم وأعلن أنه قد جاء ليحرر الإنسان من كل جوانب الظلم، عندما قال: "رُوحُ الرَّبِّ علَيَّ لأنَّهُ مَسحني لأُبَشِّرَ المساكينَ، أرسَلَني لأُناديَ لِلأسرى بالحُرِّيَّةِ، وللعُميانِ بِعَودَةِ البصَرِ إليهِم، لأُحَرِّرَ المَظلومينَ".
كم نحن بحاجة إلى أن نتذكر هذا الأمر اليوم، وكم عالمنا بحاجة إلى هذه الرسالة. فمن ناحية، ما زال هناك فراعنة كثيرين في عالمنا – يستعبدون الإنسان أفرادًا وشعوبًا لبناء ممالكهم وامبراطورياتهم. ما زال هناك استعباد للبشر، واليوم الاحصائيات تتكلم عن أكثر من 40 مليون عبدٍ حول العالم، أكثرهم في شرق آسيا. وهناك من يختلقون الحروب للاستحواذ على ثروات الشعوب، وهناك من يتحكمون باقتصاد العالم والتجارة والأموال. وطبعًا هناك من يحتلون الأرض ويطردون الإنسان من أرضه.
رسالة اليوم هي أن الله ينظر من علاه، أن الله لن يسكت إلى الأبد عن الظلم والاستبداد، وأن الفرعون مهما تفرعن، فهناك ربّ في السماء له السيادة والسلطان! هذه أخبار سارة؛ أخبار تحثنا على الصبر والرجاء والصمود. وهي أيضًا أخبارٌ تحثنا على العمل وعلى الانحياز بدورنا نحن الآخرون مع العدالة. فرسالة اليوم هي أن الله منحازٌ –لا مع شعبٍ أو عرقٍ أو دينٍ ما، بل مع المظلوم؛ مع العدل؛ مع الحريّة!
واليوم نتذكر أنّ الحريّة الحقيقية هي مع المسيح وفي المسيح. فهو من قال "فَإِنْ حَرَّرَكُمْ الابْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَارًا" (متى 36:8). ولذا، علينا نحن من اختبرنا هذه الحريّة مسؤولية مضاعفة. فعلى الكنيسة على أن تأخذ دورًا قياديًّا في مواجهة الظلم بأنواعه. فيجب أن ندعو نصلّي ونعمل من أجل تحرير المظلومين من فقراء وواقعين تحت الاحتلال ومقهورين ومستضعفين – اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا. ويجب مواجهة هيكليات الظلم التي تسببت بأن يكون هناك مظلومون وفقراء وواقعون تحت الاحتلال. كما يدعونا المزمور: "اِقْضُوا لِلذَّلِيلِ وَلِلْيَتِيمِ. أَنْصِفُوا الْمِسْكِينَ وَالْبَائِسَ. نَجُّوا الْمِسْكِينَ وَالْفَقِيرَ. مِنْ يَدِ الأَشْرَارِ أَنْقِذُوا" (مزمور 3:82).
ولا يجب أن تقتصر دعوة الكنيسة كما ينادي البعضُ على المناداة بالإيمان بالله دون أن نكترث بأخينا الإنسان وندعو إلى إنصافه! فكما قال مارتن لوثر كنج، "أيّ دينٍ يدّعي بأنه معنيّ بأرواح البشر ولكنه لا يكترث بعيشة البؤس التي يعيشونها في الأحياء الفقيرة، والظروف الاقتصادية التي تخنقهم، والظروف الاجتماعية التي تشلّهم، فهو دينٌ بالٍ، ينتظر الفناء".
أعود للصحفية التي قابلتني بالأمس. في نهاية المقابلة سألتني: يقول البعض بأن الإنسان الذي يؤمن بالكتاب المقدس بعهديه يجب أن يدعم إسرائيل، لأن الكتاب يعلّم ذلك. فأجبتها: بل إن الإنسان الذي يؤمن بالكتاب المقدس بعهديه يجب أن يدعم العدالة والحقّ، وأن يسعى للسلام. هذا هو إلهنا الذي عرفناه في الخروج، وهو الإله الـمُحرِّر والـمُحبّ الذي عرفناه واختبرناه في المسيح يسوع. هذا إيماننا، وهذه دعوتنا. آمين.