نشهد في الكتاب المقدس صراعاً مستمراً بين الانا او الذات من جهة وبين سيادة الله والتسليم له من جهة اخرى. رفض آدم التسليم لقول الرب الا يأكل من ثمر الشجرة لكي يثبت لحواء انه صاحب قرار وعنفوان واختيار. ورفض قايين تعليمات الله عن الذبيحة التي يرضى عنها فاتخذ طريق آخر رآه حسن في عينيه وهو إرضاء الله بثمر الحقل! ورفض موسى تعليم الرب الرافض للقتل فاحتدّ وقتل المصري ومثله داود الذي تبع اهواء الذات وزنى مع زوجة اوريا... وتطول القائمة.
انها حرب ضروس بين التسليم لله مقابل كبرياء الكيان البشري المعتد بنفسه والباحث عن مجده وسطوته. انها تصوير للحرب بين الجسد والروح.
ولقد حث الرب يسوع نفسه عليها في العهد الجديد بمفهوم جديد حين دعاها "انكار الذات وحمل الصليب" اذ قال:" ان أراد أحد ان يأتي ورائي، فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني" (لوقا 9: 23).
وتصطدم هذه الوصية مواجهة بروح العصر في ايامنا بشكل خاص. فقيمة الانسان وبالتالي حريته وحقوقه هي الأساس. فننادي بالتمكين في الهيئات على أنواعها (شركات، كنائس، هيئات لا ربحية وغيرها) لكي نزيد الفعالية. وننادي بالمبادرات الشخصية والستارت اب في الاقتصاد لكي نجد حلولاً تسعى لرفاهية الانسان وذلك في الشركات. وننادي بالتنمية البشرية التي تعزز الفرد وتطور مواهبه ومهاراته وغيرها. ان كلها يصب في تدعيم الانسان ونفخ ذاته. ان نجحت تلك المساعي فان ذلك الانسان يتفوق ويتقدم وينجح وبالتالي تنتفخ الانا فتصبو لمزيد من النجاح الشخصي.
لكن كيف يستوي ذلك مع وصية الرب التي تطالب اتباعه بانكار الذات وحمل الصليب؟
كيف تنكر الذات وقد طفحت بالثقة بالنفس وبالتمكين والتفويض والتعزيز؟
يعتقد البعض ان انكار الذات يفيد التنسك والتزهد والرهبنة. ويراه البعض الآخر انه ملجأ للعجز والانسحاب والفشل. لكنها في الحقيقة ليست هذا ولا ذاك. انها توحد ذاتي في كيان الله. انها الصلب مع المسيح لكي يحيا هو فيّ (غلاطية 2: 20).
للأسف نفرض ارادتنا على الله فلا يحيا هو فينا ولكن نسعى لنحيا نحن "فيه"، ان جاز التعبير. نضع اجندتنا وافكارنا في المركز ونعزيها لله. نصبغ نهجنا بأنه من صنع الله وارادته وهو منها برّاء.
ان الصراع بين تسلط الانا وبين نكران الذات هو امر تركه الله لاختيار الانسان ولم يفرض نتائجه عنوة علينا. ولكن المسيحي العصري كثيرا ما يخجل من خياره المتمثل بتفضيل اجندته الشخصية واراءه ومجده الخاص فلا يعلن فوز العلني الساحق على انكار الذات وحمل الصليب. فيموه من حوله وحتى يصدق كذبته بنفسه، فيعرض اجندته وكأنها هي نفسها ارادة الله وصوته، وما هو الا منفذ تقي لتلك المشيئة الالهية...
ان كشف زيف هذه الانا التي "لبست" لباساَ الهيا مع انها في الواقع فردية شخصانية منبعها الذات، لا يتم اجمالاً بإعلانات الهيه مضادة وانما بالتواضع الحقيقي امام الناس (وهي انعكاس لنكران ذات وتقبل مشيئة الله) وقبول مرجعية وخضوع للسلطات. ان اختبار حقيقتها هو فحص النفس والاعتراف بالخطأ وحتى التوبة. الروح الفردية التي لا تقبل الانتقاد ولا مساهمة الآخر في عمل جماعي بل تفرد ودكتاتورية ومعرفة حصرية لمشيئة الله واعلاناته- لم تنكر ذاتها. انها عملياً تفرض وتقحم ارادتها على إرادة الله بعيداً عن قصده بأن يسود العكس.
ان تمييز نكران الذات يتم بالأمور الحياتية الصغيرة فهل نكون امينين بالقليل لكي نعيش نكراناً للذات فيقيمنا على الكثير لمجد اسمه؟