نحاول جميعنا أن نفسر الكتاب المقدس ونعرف مشيئة الله. ونتأرجح بين حرفية النص ومجازيته. فأحيانا نرفض الحرفية باسم اللاهوت فلا نقدم الخرفان على مذابح بسبب ذبيحة المسيح على الصليب. ونرى إبراهيم كنموذج للإيمان وسليمان كنموذج للحكمة ولكننا لا نقبل بتعدد الزوجات. ونعظم موسى ولكننا نستاء من سماحه بالطلاق ونرفض تطبيق طقوس الحلال والحرام التي شرعها. وننذهل من سفك الدماء فنختبئ في أقوال المسيح في الموعظة على الجبل. لا شك أن النص يحتاج إلى تفسير. ألم يقم الله معلمين ووعاظا في الكنيسة؟ ولكن كيف نفسر النص؟
شغل هذا السؤال دارسي الكتاب المقدس منذ ولادة الأسفار المقدسة. وفي القرون الأولى للمسيحية برز إيريناوس في القرن الثاني للميلاد مؤكدا أننا يجب أن نفسر الأسفار المقدسة بطريقة تتوافق مع إيمان الرسل والكنيسة. وهكذا أصبح الحق الكنسي المعيار التفسيري. واستطاعت الكنيسة أن تفسر العهد القديم دون أن ترفض وحيه كما فعل الهرطوق ماركيون ودون أن تلتـزم بحرفيته كما فعل بعض اليهود. وبسبب جهود أوريجانوس وأغسطينوس وغيرهم برز التفسير المجازي والتفسير الأخلاقي بجانب التفسير الحرفي. وللأسف، تحول التعليم الكنسي في بعض الأحيان إلى طوق يخنق رقاب المفسرين الذين يحاولون تحدي أي فكر كنسي.
فجاء الإصلاح اللوثري ليدعو المفسرين إلى استبدال التفسير الكنسي بالفكر الكتابي. سئم بعض المفسرين من سلطة الكنيسة فتوجهوا إلى سلطة المفسر الكتابي. ويشمل الفكر الكتابي زاويتين. فربما يكون المعنى هو تفسير نصوص الأسفار المقدسة وجعلها المرجع الوحيد لحياة الإيمان، أي أن التعليم الكنسي غيـر مُلزم. أو قد يكون الفكر الكتابي هو أي فكر يتوافق مع كلمة الله الموحاة. فمثلا، قد يقول المؤمن أن عقيدة الثالوث هي فكر كتابي رُغم عدم وجود آية أو فقرة تشرح الثالوث كما نؤمن به اليوم. أو قد نقول أن المسيح إنسان كامل وإله كامل في ذات الوقت هو أمر كتابي. وهكذا لا يُختزل الفكر الكتابي بالأسفار المُوحاة بل يتعداها إلى كل مجالات الحياة مادام المنتوج النهائي يتوافق مع تعاليم الكتاب المقدس.
وبسبب التوجه الكتابي، سواء أكان المعنى الأول أو الثاني، ابتعد الكثيـرون عن التعليم الكنسي. وللأسف مع تبني العقلانية التي تضع الله في المختبـر البشري والفردانية - التي تجعل كل إنسان أو فرد يفسر ما هو مستقيم في عينيه - انحسر دور قوانين الإيمان والتقليد الكنسي. فانفجرت الكتب من عدد التفاسير وتحوّل كل مفسر إلى نبـي يقول: "هكذا يقول الرب". ومن لا يقبل التفسير لا يقبل الله ولا يقبله الله. فحدق بنا خطر الانزلاق إلى البدع والفوضى والتسلط.
ربما علينا أن نعيد تقييم واقعنا التفسيري ونفحص علاقة التعليم الكنسي مع التعليم الكتابي. لم يرفض الإصلاح كل تعليم كنسي بل بعض التعاليم التي لا تتوافق مع الكتاب المقدس بصورة واضحة. ربما لا يكفي أن ننظر إلى الكتاب المقدس ونتجاهل قوانين الإيمان التي تتحدث عن طبيعة المسيح وعقيدة الثالوث. لقد أدركت الكنائس المُصلحة أهمية التعليم الكنسي فكتبت عقيدتها. وهكذا كتب لوثر وكتب كالفن وكتب الكثيـرون من المصلحين عقيدة الكنيسة "الكتابية". وتبعت نهجهم الكنائس الإنجيلية الحرة فكتبت عقائد الإيمان ووضعتها في دساتير كنسية لترشدها وتعينها في تفسير الكتاب المقدس وفهم إرادة الله. وهكذا فعل مجمع الكنائس الإنجيلية ورابطة الكنائس المعمدانية في إسرائيل وغيرهم.
إن الدستور الكنسي الذي يحوي العقيدة يحمي الكنيسة من الفردانية ومن الانزلاق إلى البدع والفوضى التسلط. ولا يكفي كتابة هذه الدساتير بل يجب تفعيلها والخضوع لتعاليمها ونقاشها وتطويرها حتى تصبح تقليدا حيا يوجهنا اليوم نحو عالم الغد. ويقودنا من أرض الآلام إلى ملكوت المجد. ولهذا ربما من الأفضل عدم قتل التفسير الكنسي باسم التفسير الكتابي أو العكس، بل يجب علينا وضع التفسيرين في حوار دائم مع التشديد أن السلطة النهائية هي للكتاب المقدس.