تحدث أحد الزملاء في فترة التأمل الصباحي التي كنا نتشارك بها في المؤسسة المسيحية، عن ضرورة محاربة الإجهاض. ثم فاجأني بقوله: حتى في دولة إسرائيل فإن الإجهاض مسموح به. وكان ذلك أثناء الانتفاضة الأولى في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وكأن دولة إسرائيل في عرف هذا الزميل هي دولة شعب الله فكيف بها تسمح بالإجهاض؟ وهنا أخذت أتساءل بيني وبين نفسي: كيف يمكن لهذا الزميل أن يصل إلى هذا المستوى من التفكير، حتى أنه يتجاهل ما يحصل عملياً في الاراضي الفلسطينية المحتلة. وأين مبدأ العدل الذي يُعلَن بوضوح في صفحات الكتاب المقدس؟ وعندما أتى دوري أوضحت للزملاء الخطأ الكبير الذي وقع فيه زميلنا، إذ هو لم يكترث البتة بقتل الأولاد الأحياء من الشعب الفلسطيني، ولا باحتلال الأرض بالقوة، وبناء المستوطنات عليها.
يبدو واضحاً أن هناك تناقضاً كبيراً بين ما يتمسّك به البعض من مواقف لاهوتية صهيونية، وبين موضوع العدل في الكتاب المقدس، لا سيّما الظلم الكبير الحاصل للشعب الفلسطيني. فالمهم عندهم هو تحقق ما يفسرّون لنبوءات العهد القديم وبشكل حرفي ومشوّه. ويتجاهل هؤلاء أن النبوءات المذكورة كانت تتحدث عن رجوع سبط يهوذا أو اليهود من سبي بابل، بانتظار مجيء المسيح المخلّص الملك. وفعلاً عاد اليهود من السبي، وأتى المسيح المخلّص الملك، وأعلن ملكوت الله، وآمنت به البقية التقيّة من الشعب اليهودي. أما الادعاء أن شعب إسرائيل بمجموعه رفض المسيح، وأن الله بدّل خطته، وأجّل بالتالي مشروعه بالنسبة لشعب إسرائيل، فهو ادعاء خاطئ، ولا أساس له بحسب تعليم العهد الجديد من الكتاب المقدس.
كنت قد بحثت عن هذا الموضوع بسلسلة مقالات سابقة. لكنني اليوم سأتحدث عن أهمية موضوع العدل. إن الكتاب المقدس لا سيما في العهد القديم أكّد على ضرورة العدل وفي كل المجالات. أنشد النبي موسى قائلاً: «إني باسم الرب أُنادي. أعطوا عظمة لإلهنا. هو الصخر الكامل صنيعه. إن جميع سبله عدل، إله أمانة لا جور فيه صديّق وعادل هو»(1). وطلب الله من شعب إسرائيل في القديم، أن يبتعد عن الشر ويصنع العدل، وحذره من الظلم والجور(2). وكتب النبي إشعياء قائلاً: «كيف صارت القرية الأمينة زانية. ملآنة حقا كان العدل يبيت فيها. وأما الآن فالقاتلون»(3). أما النبي حزقيال فكتب قائلاً: «هكذا قال السيد الرب. يكفيكم يا رؤساء إسرائيل. أزيلوا الجور والاغتصاب وأجروا الحق والعدل(4)».
ولعل أهم إشارة لها علاقة بموضوعنا اليوم، هي عندما طلب الله من بني إسرائيل أن يعاملوا الغرباء في وسطهم كنفوسهم: «وإذا نزل عندك غريب في أرضكم فلا تظلموه. كالوطني منكم يكون لكم الغريب النازل عندكم وتحبه كنفسك لأنكم كنتم غرباء في أرض مصر. أنا الرب إلهكم(5)». ونتساءل ما هو موقف أولئك المفسّرين اليوم تجاه هذا النص الواضح؟ إن الشعب الفلسطيني اليوم ليس هو الغريب، لكنه هو صاحب الأرض الذي اُحتلت ارضه، وطُرد منها، واعتُدي عليه، وسُلبت كرامته، ويُحاصر كل يوم في مدنه وقراه. وهو مازال في الأراضي الفلسطينية المحتلة تحت الاحتلال بعرف القانون الدولي. فكيف نستطيع تقييم هذا الأمر عندما نتحدث عن العدل بالنسبة للقضية الفلسطينية ككل؟ وهل من المعقول أن يرضى الله الإله العادل بما تقوم به إسرائيل من جرائم واضحة ضد الانسانية قبل أن تكون ضد الشعب الفلسطيني؟ أما بالنسبة للحروب التي دوّنها لنا العهد القديم، فقد كان الله يدين الشعوب من خلالها، حتى أنه أدان شعب إسرائيل نفسه عندما فعل الشر.
وأكثر من ذلك، إن الله لم يسمح للملك داود ببناء الهيكل قديماً، والسبب ليس لأنه أخطأ خطيئته الشنيعة المعروفة، لكن لأنه سفك دماء كثيرة. قال داود لابنه سليمان: «يا ابني قد كان في قلبي أن أبني بيتاً لاسم الرب إلهي. فكان إليّ كلام الرب قائلاً: قد سفكت دماً كثيراً وعملت حروباً عظيمة فلا تبني لاسمي لأنك سفكت دماء كثيرة على الأرض أمامي»(6). أو لم يدن الرب الملك آخاب وامرأته ايزابل عندما قتلا نابوت اليزرعيلي وأخذا حقله؟(7). وكتب سليمان الحكيم في سفر الجامعة قائلاً: «إن رأيت ظلم الفقير ونزع الحق والعدل في البلاد فلا ترتع من الأمر. لأن فوق العالي عالياً يُلاحظ والأعلى فوقهما»(8).
فماذا يقول الله اليوم لإسرائيل التي اغتصبت الأرض بالقوة، وشرّدت السكان، ومارست الظلم، وسفكت دماء كثيرة؟ وماذا يقول أولئك المفسرون الذين يدافعون عن إسرائيل واغتصاب الأرض؟ وأين العدل في كل ذلك؟ لماذا لا نسمع كلمة استنكار واحدة منهم تجاه كل ما تقوم به إسرائيل؟ وهل المهم هو تفسيرهم الخاص بتحقق النبوءات– مع العلم أن جميع النبوءات قد تمّت بمجيء المسيح- أكثر من سعيهم لتحقيق العدل واستنكار الظلم؟ أو لا يجب علينا كمسيحيين كتابيين أن ندافع عن العدل وحقوق الإنسان بالنسبة لإسرائيل خاصة، وفي أي مكان وزمان؟
(1) تثنية3:32و4.
(2) نقرأ في سفر اللاويين15:19«لا ترتكبوا جوراً في القضاء. لا تأخذوا بوجه مسكين ولا تحترم وجه كبير. بالعدل تحكم لقريبك». وفي نفس المنحى كتب النبي إشعياء قائلاً: «هكذا قال الرب. احفظوا الحق واجروا العدل»(إشعياء1:56).
(3) إشعياء21:1.
(4) حزقيال9:45.
(5) لاويين33:19و34.
(6) أخبار الأيام الأول7:22و8.
(7) ملوك الأول، أصحاح 21.
(8) الجامعة8:5.