يخلط البعض بين التاريخ والتأريخ. فبيما يتمحور التاريخ حول الوصول إلى وقائع ما حصل في الماضي يتمركز التأريخ حول فلسفة وآليات كتابة التاريخ. فلا يوجد مؤرخ أو مؤرخة بدون افتراضات واهتمامات. تتنوع الافتراضات وتشكل عدسة القراءة. فلن نجد تاريخا علميا يوافق عليه جميع المؤرخين كما يوافقون على درجة غليان الماء. فمثلا، يتحدث البعض عن حرب 1948 في فلسطين وكأنها نكبة بينما يقول آخرون أنها أستقلالٌ. علاوة على ذلك، تتنوع الاهتمامات. فربما يكتب المؤرخ عن الحرب ولا يكتب عن الطبخ وأنواعه. هذا التنوع في الافتراضات والتعدد في الاهتمامات هو من دائرة بحث التأريخ. فأي نوع من التاريخ نجده في الكتاب المقدس؟ ما افتراضات المؤرخ وما أهدافه؟
لا يهدف الكتاب المقدس إلى تزويدنا بكتاب تاريخ عن يسرائيل البيبلية ولا حتى عن شعوب الشرق الأدنى القديمة. وليس موضوع اهتمام الكتاب هو أحداث الماضي وصراعات الشعوب وسيادة الملوك والثورات بل جُل اهتمامه هو الله والعلاقة معه. ولهذا علينا أن نؤكد أن التاريخ في الكتاب المقدس هو تاريخ لاهوتي يجب أن يقودنا إلى اكتشاف إله العهد وعبادته وحده. فعلى سبيل المثال، تحرير يسرائيل البيبلية من مصر متمحور حول الله المحرر وإله العهد.
من هذا المنظور يجب ألا نستغرب عندما نقرأ عن المعجزات والآيات والعجائب التي تملأ صفحات الكتاب المقدس. ويجب ألا نستغرب عندما تبرز النبوات التي تحدثنا عن المستقبل أو عندما نسمع الأقوال النبوية التي توقِظ الضمير وتستنهض محبة الله ومحبة القريب والغريب. فليست صفحات الكتاب المقدس من بنات خيال المؤرخ وأوهامه بل من وحي رباني ومن حقيقة إيمانية متجذرة بأحداث فعلية وظروف زمكانية. هذا الافتراض أساسي ومعاكس لمنهج التأريخ المتجذر في التشكيك العقلاني. فنقطة البداية تحدد المنتوج النهائي. وأنا لا أقول أن الإيمان الصحيح لا يفكر بل أدعو إلى إيمان مفكر وليس إلى فكر مُشكك. ولن نتبنى نهج الإيمان المفكر دون أن نكون ضمن جماعة العهد الإلهي. عندئذ فقط نفهم بالإيمان ونؤمن بكل فكرنا.
وبينما يفترض المؤرخ المُشكك أن صدق الكتاب المقدس يعتمد على الحفريات والآثار وتاريخ شعوب الشرق الأدنى وتوافق التاريخ البيبلي مع العقل والمنطق، يفترض الإيمان المفكر أن صدق كلمة الله بداية لفحص الحفريات والآثار وتاريخ شعوب الشرق الأدنى القديمة. وبينما يُعرّف المؤرخ المُشكك مفهوم "صدق" أو مصداقية النص بالعقل العلمي فقط وبالجهود البشرية فإن مفهوم "صدق" النصوص في دائرة الإيمان يعتمد على مصداقية الله التي نختبرها في علاقة متكاملة تشمل العقل والقلب والإرادة والشعور وتبرز في أوج قوتها في المسيح الذي أحبنا. وتصبح المحبة دربا للفهم الذي يشمل العقل ويقدسه بالإيمان. وهكذا يعمل التأريخ البيبلي على أنسنة البشر بينما ينزع التأريخ المُشكك هذه الأنسنة ويحول الإنسان إلى عقل دون إيمان وبالتالي دون علاقة مع الله. ويخسر الإنسان أهم ما يميز إنسانيته محبة الله التي منها تنبع محبة القريب. فبدون محبة يصبح التأريخ البيبلي المُشكك مقبرة المؤرخين والشعوب. أما المحبة فتلد إيمانا مفكرا يرفع شأن الأمة.