قلت لمحدّثي هل تعلم أن البقيّة التّقيّة (1) التي تتحدث عنها كانت موجودة في زمن الرسل؟ وأن الرسول بولس اعتبر نفسه جزءاً منها؟ استغرب محدّثي الأمر وقال: برهن لي، وأرني أين هي الشواهد الكتابية التي تعتمد عليها، وعندما أجبته سكت. لقد ورد تعبير البقيّة المؤمنة أول ما ورد في العهد الجديد من الكتاب المقدس، برسالة الرسول بولس إلى أهل رومية الأصحاح التاسع (2). إذ مهّد الرسول بولس بالحديث عن عمل الله لخلاص الأمم أيضاً، وليس اليهود فقط، «التي أيضاً دعانا (الله) نحن إياها ليس من اليهود فقط بل من الأمم أيضا». مستنداً في ذلك على نبوءة النبي هوشع التي قال فيها الله، «سأدعو الذي ليس شعبي شعبي والتي ليست محبوبة محبوبة»(3)، «ويكون في الموضع الذي قيل لهم فيه لستم شعبي أنه هناك يدعون أبناء الله الحي»(4). ثم أضاف مبرهناً، معتمداً على نبوءة النبي إشعياء: «وإشعياء يصرخ من جهة إسرائيل: وإن كان عدد بني إسرائيل كرمل البحر فالبقيّة ستخلص (5)... وكما سبق إشعياء فقال لولا أن ربّ الجنود أبقى لنا نسلاً – أي بقيّة صغيرة، حسب نبوءة إشعياء- لصرنا مثل سدوم وشابهنا عمورة»(6).
نلاحظ أولاً: من كلام الرسول بولس أنه استشهد بنبوءة من النبي هوشع تتعلق بإسرائيل فقط، لكي يعلن أن الله دعا أيضاً أناساً من الأمم لكي يكونوا من شعبه. وهذا يشير كيف فسّر الرسل الأوائل بالروح القدس نبوءات العهد القديم، مبتعدين في ذلك عن التفسير الحرفي الضيق. وأكد الرسول بولس أن هدف الله كان منذ الازل أن يعلن خلاصه لجميع البشر، وأنه لم يعد هناك فرق في العهد الجديد بين أممي ويهودي، إذ أن كل من يؤمن بالمسيح اليوم يصبح من شعب الله، وأن الجميع سيدعون أبناء الله الحي.
ونلاحظ ثانياً: أن الرسول بولس انتقل من هذا المفهوم لكي يؤكد على حقيقة هامة، وهي أن بقيّة فقط من شعب إسرائيل هي التي ستخلص. واستند في ذلك على نبوءتين للنبي إشعياء كما أسلفت. وبذلك عاد الرسول بولس إلى المبدأ الذي انطلق منه في بداية الأصحاح التاسع: «لأن ليس جميع الذين من إسرائيل هم إسرائيليون. ولا لأنهم من نسل إبراهيم هم جميعاً أولاد (7)». أي أن خلاص الله يتوقف على الإيمان الشخصي وليس على الوراثة الجسدية. وهنا عالج الرسول بولس سبب عدم إيمان الأغلبية من شعب إسرائيل، عندما اقتبس مرة أخرى من سفري المزامير وإشعياء اللذين تحدثا، كيف أن هذا الشعب سيصطدم بحجر الصدمة: «كما هو مكتوب: ها أنا أضع في صهيون حجر صدمة وصخرة عثرة وكل من يؤمن به لا يخزى» (8). والمقصود بذلك طبعاً الرب يسوع المسيح، الذي هو حجر الصدمة.
وورد تعبير البقيّة المؤمنة مرة أخرى في سفر رومية أيضاً الأصحاح الحادي عشر. ختم الرسول بولس الأصحاح العاشر من سفر رومية بالقول: «أما من جهة إسرائيل فيقول –أي النبي إشعياء- طول النهار بسطت يديّ إلى شعب معاند ومقاوم» (9). وهنا تساءل الرسول بولس في بداية الأصحاح الحادي عشر قائلاً: «فأقول العلّ الله رفض شعبه. حاشا. لأني أنا أيضاً إسرائيلي من نسل إبراهيم من سبط بنيامين. لم يرفض الله شعبه الذي سبق فعرفه (10)». أي اعتبر الرسول بولس نفسه كمؤمن بالمسيح، أقوى برهان على أن الله لم يرفض شعبه من جهة الخلاص، فهو أيضا بالتالي من هذه البقيّة المؤمنة. ولكي يؤكد على حجته، عاد بنا إلى حادثة النبي إيليا وشكواه من تمرد بني إسرائيل على الله. فكانت الإجابة له: «لكن ماذا يقول له الوحي. أبقيت لنفسي سبعة آلاف رجل لم يحنوا ركبة لبعل» ثم أردف الرسول بولس قائلاً: «فكذلك في الزمان الحاضر قد حصلت بقيّة حسب اختيار النعمة» (11). الزمان الحاضر يعني الزمان الحاضر. أي كما أبقى الله بقيّة مؤمنة في زمن النبي إيليا، هكذا أبقى بقيّة مؤمنة من شعب إسرائيل في الزمان الحاضر، أي زمان الرسول بولس والرسل الأوائل، عصر العهد الجديد الحالي.
أيوجد أوضح من هكذا برهان على أن البقيّة المؤمنة من شعب إسرائيل، كانت في زمن الرسل. ألم يكن كل التلاميذ والرسل الأوائل هم من اليهود؟ أو لم يكن ولفترة معينة قصيرة من الزمن كل الذين آمنوا هم من اليهود؟ أو لم ينطلق التلاميذ والرسل الاوائل اليهود حاملين بشارة الإنجيل، بشارة ملكوت الله، إلى كل اصقاع العالم المعروف آنذاك؟ أو ليست هذه هي البقيّة المؤمنة التي تنبأ عنها أنبياء العهد القديم؟ ولماذا ما زال البعض ينتظر بقيّة من اليهود يسمّونها تقيّة، ستأتي في زمن آخر بالمستقبل؟ لكن بماذا ستبشّر هذه البقيّة التقيّة بحسب مفهومهم؟ ستبشّر ببشارة الملكوت التي تختلف عن بشارة الإنجيل. وتنادي هذه البشارة بحسب مفهومهم بالمسيح الملك الذي سيأتي ويؤسس مملكة أرضية، ويعيد الملك لشعب إسرائيل، محققاً لهم المواعيد القديمة. لمعرفة المزيد عن هذا الموضوع، أرجو من القارئ العودة إلى مقالتي التي نشرتها على هذا الموقع بـــــ 30 كانون الثاني (يناير) من العام الماضي، وهي بعنوان: ما هي بشارة الملكوت؟ وهل هي إنجيل آخر؟
من الواضح إذا أن كلمة الله أكّدت لنا في العهد الجديد، أن البقيّة المؤمنة (التقيّة) من شعب إسرائيل، والتي تنبأ عنها أنبياء العهد القديم، كانت موجودة في عهد الرسل الأوائل. وأن لا داعي لنا للبحث عنها في المستقبل. وأن لا أساس كتابي، ولا صحة لكل التفاسير التي تدّعي عكس ذلك. وإذ اتضح لنا هذا الأمر فهذا يعني أن ركناً اساسياً من أركان التفسير التدبيري(12) قد ثبت بطلانه.
- البقيّة التقيّة بحسب التفسير التدبيري هي مجموعة من اليهود الأتقياء الذين سيؤمنون بالمسيح، بعد اختطاف الكنيسة من الأرض، وخلال السبع سنوات الأخيرة من عالمنا الحالي. وسيكرزون ببشارة الملكوت، التي تعني أن المسيح سيأتي لكي يؤسس الملكوت الأرضي، ويحقق لشعب إسرائيل وعود الله القديمة له.
- رسالة رومية24:9-29.
- سفر هوشع23:2.
- سفر هوشع10:1.
- سفر إشعياء21:10-23.
- سفر إشعياء9:1.
- رسالة رومية6:9-7.
- رسالة رومية33:9؛ مزمور22:118؛ إشعياء16:28.
- رسالة رومية21:10؛ إشعياء2:65.
10- رسالة رومية1:11.
11- رسالة رومية4:11-5.
12- التفسير التدبيري هو الذي يؤمن أن الله يتعامل مع الإنسان من خلال سبعة تدابير، ويشدد على العلاقة الخاصة المستمرة بين الله وشعب إسرائيل. وأن الله سيعود ويتعامل مع شعب إسرائيل في وقت النهاية. ومن هنا أتت فكرة البقيّة التقيّة التي ستنادي ببشارة الملكوت في ذلك الوقت.