كيف يصف لنا العهد الجديد شعب إسرائيل الإثني؟ وهل ما زالوا شعب الله المختار؟ للإجابة عن هذه التساؤلات أقول: لعل من أبلغ المقارنات التي دوّنها الرسول بولس كانت ما سجّله لنا في الأصحاح الرابع من رسالته إلى أهل غلاطية، عندما قارن بين عهد الناموس (الشريعة) في العهد القديم، وعهد النعمة في العهد الجديد. ولكي يؤكد على أهمية الفرق بين هذين العهدين، عاد بنا إلى إبراهيم وزوجته سارة وهاجر جاريتها، وإلى اسحق وإسماعيل اللذين ولدا منهما. فلقد ولد اسماعيل من الجارية هاجر، أما اسحق فلقد ولد من سارة زوجة إبراهيم. والعجيب أننا نسمع عظات كثيرة تتحدث عن اسماعيل واسحق ونسليهما، دون التطرق إلى الرمز الروحي الذي سجّله لنا الرسول بولس هنا.
بعد أن أكّد الرسول بولس على الحقيقة التاريخية أنه كان لإبراهيم ابنان واحد من الجارية(هاجر) والآخر من الحرّة (سارة)، أوضح لنا «لكن الذي من الجارية ولد حسب الجسد وأما الذي من الحرّة فبالموعد»(1). لقد وعد الله إبراهيم أنه سيباركه ويكثّر نسله كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر. لكن بالرغم من وعد الله هذا، لم يكن لإبراهيم ابن من زوجته سارة، وقد أصبح عمره خمساً وثمانين سنة. فاقترحت سارة عليه، أن يدخل على جاريتها هاجر، التي ولدت له ابناً دعاه اسماعيل. ولهذا اعتبر الرسول بولس أن الذي وُلد من الجارية وُلد حسب الجسد، أي بحسب التخطيط البشري. لكن الله عاد وافتقد سارة العاقر كما وعد إبراهيم، وكانا شيخين متقدمين في الأيام، فحبلت وولدت ابناً، ودعا إبراهيم اسمه اسحق. وهكذا وُلد اسحق من الحرّة التي هي سارة، بحسب وعد الله.
وهنا انتقل الرسول بولس للحديث عن الرمز الذي تشير إليه هذه القصة التاريخية. فكتب قائلاً: «وكل ذلك رمز لأن هاتين هما العهدان أحدهما من جبل سيناء الوالد للعبودية الذي هو هاجر»(2). إن الجارية هاجر ترمز إذاً إلى عهد الشريعة الذي عقده الله مع بني إسرائيل، من خلال كليمه النبي موسى على جبل سيناء. والجارية تعني المستعبدة، تماما كاستعباد الشريعة للإنسان. لكن الرسول بولس لم يقف عند هذا الحد، بل أضاف قائلاً: «لأن هاجر جبل سيناء في العربية. ولكنه يُقابل أورشليم الحاضرة فإنها مستعبدة مع بنيها»(3). إن تعبير أورشليم الحاضرة يشير إلى شعب إسرائيل الإثني، والذي كان مركزه في أورشليم. أما تعبير بنيها فهو يشير إلى إسرائيل أو اليهود الذين رفضوا الإيمان بالمسيح. وبما أن عهد الشريعة أو الناموس هو عهد العبودية، فكذلك إن أولئك اليهود ما زالوا تحت العبودية الروحية.
لنلاحظ قارئي أن الرسول بولس هنا ربط شعب إسرائيل الإثني بهاجر وليس بسارة، مع أنهم كانوا يعتبرون أنفسهم أنهم من نسل إبراهيم وسارة حسب الجسد. وهذه حقيقة قد تصدم الكثيرين، لا سيما الذين ما زالوا يعتبرون أن مواعيد الله ما زالت قائمة لشعب إسرائيل الإثني. وهذا يؤكد أنه بعد مجيء المخلّص المسيح لم يعد للنسل الإثني أو الجسدي أي اعتبار. فإذا لم يؤمن اليهودي بالمخلص المسيح، لا يُعتبر ابناً لإبراهيم. ونستنج أيضاً أن إسرائيل الإثني لم يعد شعب الله، فلقد تبدّل الوضع بالكلية بعد مجيء المسيح، وصار بالتالي كل من يؤمن بالمسيح يُعتبر من شعب الله.
ثم انتقل الرسول بولس للحديث عن سارة وما ترمز إليه فكتب قائلاً: «وأما أورشليم العليا التي هي أمنا جميعاً فهي حرة. لأنه مكتوب افرحي أيتها العاقر التي لم تلد واهتفي واصرخي أيتها التي لم تتمخض فإن أولاد الموحشة أكثر من التي لها زوج»(4). إذاً إن سارة الحرّة العاقر زوجة إبراهيم، ترمز إلى أورشليم العليا السماوية، أي تشير إلى عهد النعمة المجانية، النعمة التي أُغدقت علينا نحن البشر الخطاة بواسطة المخلص المسيح. وكما كان عهد الشريعة هو والد العبودية، كذلك فإن عهد النعمة هو والد الحرية.
وهنا اقتبس الرسول بولس نبوءة هامة من سفر النبي إشعياء(5)، إذ دعت العاقر التي لا تنجب أولاداً لكي تفرح وتصرخ، لأن بنيها صاروا أكثر من التي لها زوج. أي دعت نبوءة إشعياء العاقر الحرة التي هي أورشليم العليا، عهد النعمة، دعتها لكي تفرح وتبتهج، لأن أولادها سيكونون أكثر كثيراً من أولاد أورشليم الأرضية، إسرائيل الإثني. وهذا الذي حصل ويحصل فعلاً، إذ بعد مجيء المخلص المسيح وبدئه لعهد النعمة بواسطة فدائه على الصليب، دخل في هذا العهد الجديد مئات الملايين من البشر، بغض النظر عن الجنس واللون والقومية. وهكذا صار أولاد عهد النعمة أكثر كثيراً من أولاد عهد الشريعة. وأضاف الرسول بولس قائلاً: «وأما نحن – كنيسة المسيح- أيها الاخوة فنظير اسحق اولاد الموعد»(6). إن المؤمنين بالمسيح هم إذاً أولاد الموعد كإسحق، وبالتالي هم أولاد الله وشعبه.
وختم الرسول بولس نقاشه للموضوع بحقيقة صادمة أخرى للكثيرين، عندما كتب قائلاً: «لكن ماذا يقول الكتاب. اطرد الجارية وابنها لأنه لا يرث ابن الجارية مع ابن الحرة»(7). لقد كان وعد الله منذ البداية أنه سيبارك إبراهيم من خلال ابنه اسحق الذي سيعطيه إياه بأعجوبة، ولهذا طلبت سارة من إبراهيم بعد أن سخر اسماعيل من ابنها إسحق، أن يطرد الجارية وابنها(8). أما الرمز الروحي لهذه الحادثة، فهو أن أصحاب عهد الشريعة أي شعب إسرائيل الإثني، لم يعد يحق لهم أن يرثوا مواعيد الله وبركاته، لأنها محصورة فقط بموعد الله بالإيمان، أي بنعمة الله لكل من يؤمن بالمسيح المخلّص. ثم استنتج الرسول بولس قائلاً: «إذاً أيها الإخوة لسنا أولاد جارية بل أولاد الحرّة»(9)، أي المؤمنون بالمسيح. لعل السؤال الآن هو: من هو الوارث؟ ومن هم الذين يستحقون أن يكونوا ورثة؟ هذا ما سأحاول الإجابة عنه في المقالة القادمة إن شاء الله.
- غلاطية23:4.
- غلاطية24:4.
- غلاطية25:4.
- غلاطية26:4-27.
- إشعياء1:54.
- غلاطية28:4.
- غلاطية30:4.
- لقد كشف لنا الرسول بولس هنا الرمز الروحي لطرد الجارية هاجر. لكن علينا أن لا ننسى أن الله عاد وبارك هاجر عندما تاهت في البريّة. فنقرأ في سفر التكوين17:21-19:«فسمع الله صوت الغلام(اسماعيل). ونادى ملاك الله هاجر من السماء وقال لها ما لك يا هاجر. لا تخافي لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو. قومي احملي الغلام وشدّي يدك به، لأني سأجعله أمة عظيمة. وفتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء. فذهبت وملأت القربة وسقت الغلام».
- غلاطية31:4