التقينا صدفة أنا وزوجتي العام الماضي مع سائق تكسي أريتيري كان يقلنا من المطار إلى بيت أصدقاء لنا في إحدى المدن بكاليفورنيا. وكانت أول مناسبة لنا لكي نتعرّف على معاناة الارتيريين. وحكى لنا السائق عن الأوضاع السيئة في إرتيريا بسبب الحرب التي تشنها عليهم إثيوبيا، وكيف اضطر أن يترك عائلته، وها هو يعمل سائق تكسي لكي يعيل عائلته. بالطبع أشفقنا عليه، لكن سرعان ما نسينا. ومرّت الأيام وإذا بنا نسمع الآن عن جائزة نوبل للسلام التي حاز عليها رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد علي لعام 2019. وكان السبب الأول هو لأنه حلّ النزاع مع إرتيريا الذي دام عشرين سنة، وأدّى لمقتل ثمانين ألف شخص. ونجح في إعلان المصالحة والصداقة، الذي تمّ بموجبه إنهاء أطول عداء في إفريقيا.
لم يكن آبي أحمد الحائز الأول على جائزة نوبل للسلام في العالم، لكنه كان الأول من دولة نامية ومن الطائفة الإنجيلية. وقد قام في إثيوبيا نفسها بإصلاحات سياسية واقتصادية ووسّع الحريات بتعديلات هي الأولى منذ 18 عاماً. وأعطى النساء نصف حقائب الحكومة. كما أطلق سراح المعتقلين والسجناء المعارضين، وأسقط صفة الإرهابية عن حركات معارضة مسلحة، ورحّب بعودة قياداتها من المنفى، واعترف بالانتهاكات التي جرت في الماضي. كما أجرى مصالحات بين القوميات والشعوب في الأقاليم المختلفة في إثيوبيا. وأشارت لجنة جائزة نوبل للسلام أن آبي أحمد منح الكثير من مواطني بلاده الأمل في حياة أفضل ومستقبل أكثر إشراقاً. لا سيما مع سعيه إلى تعزيز المصالحة والتضامن والعدالة الاجتماعية.
وإلى جانب حل النزاع مع إرتيريا لعب آبي أحمد دوراً كبيراً في تهدئة الأوضاع في السودان، عقب الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير في 11 إبريل نيسان الماضي. وأدّت جهوده إلى توقيع اتفاق تبادل السلطة بين المدنيين والعسكريين بالسودان. كما ساهم في حل النزاع في جنوب السودان بين الأطراف المتصارعة.
يعتبر آبي أحمد أول رئيس للوزراء في إثيوبيا من أصل مسلم. لكنه اعتنق المسيحية، وصار من الطائفة الإنجيلية الخمسينية. لعل السؤال الذي يجب علينا طرحه الآن هو: لماذا سلك آبي أحمد هذا المنهج؟ أو لم يكن لاعتناقه المسيحية أثر كبير على طريقته في الحكم؟ وللجواب أقول: بالتأكيد نعم. إن رسالة الإنجيل التي تؤمن بها المسيحية هي رسالة السلام والعدل والمحبة. أو لم يقل الرب يسوع المسيح: «طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يُدعون»؟(1) أو لم تدعُ المسيحية إلى العدل والرحمة؟(2)
إن آبي أحمد يحاول أن يطبّق ما تعلّمه من المسيحية. لقد بدأ التغيير أولاً في حياته، لكن هذا انعكس أيضاً على حياته العامة في الحكم والسياسة. ولنلاحظ قول لجنة نوبل للسلام أن آبي أحمد يسعى إلى تعزيز المصالحة والتضامن والعدالة الاجتماعية. إن المسيحي الحقيقي الذي ينخرط في العمل السياسي عليه أن يعبّر عن القيم المسيحية الحقة في العدالة والسلام والمحبة. وإلا فما جدوى انخراطه في الشأن العام؟ ألم يقل المسيح لتلاميذه: «أنتم ملح الأرض. ولكن إن فسد الملح فبماذا يملّح؟ لا يصلح بعد لشيء إلاّ لأن يُطرح خارجاً ويُداس من الناس»(3). ألو لم يقل أيضا: «أنتم نور العالم. لا يُمكن أن تُخفى مدينة على موضوعة على جبل»(4). فكيف يكون المسيحي الحقيقي ملحاً للأرض أو نوراً للعالم إذا لم يسعَ للسلام وإحقاق العدل في المجتمع؟
هناك ظاهرة غريبة لاحظتها يشترك فيها مع الأسف جميع مدّعي الأديان. وهي ظاهرة الجنوح في العمل السياسي نحو اليمين، وأحياناً اليمين المتطرف. وعندما أقول الاتجاه نحو اليمين، أعني الاتجاه نحو إنكار العدل الاجتماعي وإحلال السلام. مثلاً: أليس هذا هو موقف الأحزاب اليهودية الدينية التي تنادي بالدفاع عن المستوطنين وإنكار حق الشعب الفلسطيني في أرضه؟ وماذا عن موقف الأحزاب الإسلامية؟ ألا تُنكر حقوق الآخرين وتحارب العدل في المجتمع؟ وماذا عن الحرب المدمرة التي يشنها هذه الأيام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (وهو يعتبر من الإسلاميين) ضد الأكراد في سورية؟ أو ليس هناك فرق شاسع بينه وبين الرئيس الأثيوبي آبي أحمد علي الذي اوقف الحرب على إريتريا، وعفى عن معارضيه، ويعمل لتحقيق العدالة في مجتمعه؟ وماذا عن موقف بعض الأصوليين المسيحيين لا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية ألا يقفون مثلاً ضد قوانين العدل في المجتمع، كالتأمين الصحي، وتأمين الخدمات للطبقات الاجتماعية الفقيرة؟ أو لا يؤيدون الحروب؟ كموقفهم أثناء الحرب في فيتنام، والحرب على العراق؟ أو لا يدعمون اسرائيل في احتلالها للأرض الفلسطينية وطردها للسكان؟ كلها تساؤلات جديرة بالتأمل، تجعلنا نفكر ما هو سبب لجوء أدعياء الدين هؤلاء إلى مثل هذه المواقف؟
إن المسيحية التي نادى بها الرب يسوع المسيح، ونشرها الرسل الأوائل، هي مسيحية السلام والعدل والمحبة والرحمة. فهل ترانا نسعى للمناداة بهذه المثل العليا وتطبيقها لا سيّما عندما ننخرط في الشأن العام؟ هذا ما أرجوه من كل مسيحي حقيقي مؤمن. ولعلّ أفضل ما أختم به هو ما كتبه سفر الأمثال: «كلام لموئيل ملك مسّا(وهو بالمناسبة ملك عربي) علّمته إياه أمه: «افتح فمك لأجل الأخرس في دعوى كل يتيم. افتح فمك. اقض بالعدل وحام عن الفقير والمسكين»(5).
- بشارة متّى9:5.
- بشارة متّى23:23.
- بشارة متّى13:5.
- بشارة متّى14:5. 5- سفر الامثال1:31، 8-9.