لجنة العدل والسلام. هل السلام ممكن؟: الفلسطينيون المسيحيون يتكلمون. القدس: البطريركية اللاتينية، 2019.
اجتمع عددٌ من المفكرين (25 شخص) تحت اسم "لجنة العدل والسلام". وهم تابعون لمجلس رؤساء الكنائس الكاثوليكة في الأراضي المقدَّسة. واصدروا كتاباً ينقسم إلى جزئين: (1) من هم الفلسطينيون المسيحيون؟ (2) بيانات لجنة العدل والسَّلام. ويقدِّم القسمُ الأوَّلُ الفلسطينيين المسيحيين متحدثاً عن جذورهم التَّاريخية وأوضاعهم السِّياسية والاجتماعية. ويشرح الكتابُ واقعَ المسيحيين متحدثاً عن مسيحيي القدس، الضفة الغربية، غزة، إسرائيل، والشَّتات. ويُقدِّم كلُّ فصلٍ الواقعَ العددي للمسيحيين والتَّحديات السِّياسية لا سيّما القوانين المُجحفة بحق المواطن المقدسي والاحتلال العسكري لمناطق 1967 والتَّمييز العُنصري لمناطق 1948 وحصار غزة. وبعد الحديث عن المسيحيين الفلسطينيين يُبـرز القسمُ الأوَّل ثلاثَ قضايا وهي: العلاقات المسيحية الإسلامية، العلاقات المسيحية اليهودية، والإيمان والمحبة.
ويُقدِّم القسم الثَّاني بيانات أصدرتها لجنة العدل والسلام في السنوات 2014 - 2019. وتسعى البياناتُ إلى رصد الوضع العام والتَّفكير في وضع المسيحيين الفلسطينيين وفي أهم التَّحديات الَّتي يواجهونها. وتهدف البياناتُ إلى مساعدة الكنيسة في التَّفاعل الجاد والصحيح مع قضايا العدل والسَّلام. ولقد قدَّم الكتابُ سبعة عشر بياناً. تعاملت البياناتُ مع قضايا شائكة مثل التجنيد والخدمة والمدنية والانتخابات الإسرائيلية واضراب الأسرى والتطبيع وقانون يهودية الدولة وأمور أخرى.
لقد نجح الكتاب في مساعدة القارئ والقارئة على التَّعرف على أهم القضايا السِّياسية الَّتي تواجه المسيحيين الفلسطينيين. ونجح أيضاً في تقديم صورة شمولية بلغة متزنة ومتوافقة مع الكثير من القضايا الـتي تشغل بال المسيحيين الفلسطينيين. بالرّغم من ذلك، لا يزال ثمة مجال لتطوير النّقاش. وسأتحدث عن بعض القضايا التي تحتاج إلى التطوير ومن وجهة نظري.
أولاً، يؤكّد الكتابُ بحقٍ على أهمية العيش المشترك مع جيراننا المسلمين. ويُبـرز العديدَ من إيجابيات هذه العيش المشترك سواءً أكانت ضمن التاريخ المشترك أو العمل المجتمعي والإنساني الَّذي يُساهم في بناء مجتمع عادل يتحلى بالسَّلام والمحبة. هذا التَّوجه الإيجابي مفقودٌ في التَّفاعل مع أتباع الدين اليهودي. فيخلو الكتاب من ذكر أي مساهمة يهودية إيجابية في سبيل بناء مجتمع أفضل. ويشدد بحق على المظالم الإسرائيلية ولكن دون ابراز أي مواقف يهودية جريئة وشجاعة تطالب ببناء مجتمع عادل وتشكل نُواة أمل لبناء تفاعل إنساني يُفسح المجال لمستقبل أفضل. وهذا ضعف في الكتاب.
ثانيا، لا شك أننا نفتخر ونحتفل بكل المكونات البنّاءة في تشكيل العلاقات المسيحية الإسلامية. ولقد أبرز الكتاب جزءاً منها. إلا أن الكتاب يتحاشى تفصيل المكونات التي تهدد العلاقات الصحية بين المسلمين والمسيحيين في بلادنا. فبينما يضع الكتابُ بحق الكثير من التفاصيل المتعلقة بالخروقات الإسرائيلية فإن تقييمه للخروقات الإسلامية بحق المسيحيين يخلو من الاحصائيات والموضوعية العلمية ويميل إلى الخطاب التوفيقي وعدم التعامل الجدي مع الخلل الاجتماعي والديني والتربوي داخل المجتمعين المسيحي والإسلامي.
ثالثا، شدد الكتابُ على لغة المحبة. وحقا المحبة أساسُ المسيحية ورسالتها. إلا أن لغة المحبة في الكتاب ضبابية لا تبرُزُ فيها أهمُّ مكونات المحبة الإنجيلية. هذه المحبة البيبلية تتمحور حول حياة السِّيد المسيح وموته وقيامته وصعوده ودعوته لجميع الأمم أن يقبلوه ويعبدوه ربا ومخلصا. لا تستطيع المحبة أن تتحاشى الحديث عن الصَّليب بل يجب أن تُبرزه وتجعله المدخل الرئيسي لحياة المحبة. يحتاج الكتاب أن يُبرز دور الصّليب في تشكيل المحبة وهويتنا كأهل المحبة الّتي تجسدت في الصليب وبه وحده تُولد وتمتد حضارة المحبة البيبلية.
رابعاً، ركّز الكتاب على القضايا السّياسية فتجاهل الأمور الاجتماعية الّتي تتعلق بالعدل والسلام. فعلى سبيل المثال، لم يعط الكتابُ الاهتمام الكافي لظلم المرأة وقتل الشرف. ولم يهتم الكتاب بالجريمة والعنف المجتـمعي أو بالقوانين الَّـتي تتعارض مع حرية الضمير في السّلطة الفلسطينية فلا يستطيع المسلم أن يختار سوى الإسلام ديناً.
خامسا، يؤكد الكتابُ بحق أنَّه من الحكمة تعريف المصطلحات. إلا أنَّه خابَ أملي عندما قرأت الفصل الذي يحاول أن يفعل هذا الأمر. فلقد استند التَّعريف إلى توجهات شعبوية تخلو من الدراسة الأكاديمية والتبصر في الاتفاقيات الكنسية الأقليمية والدولية. فعلى سبيل المثال، عرّف الكتاب الإنجيليين بطريقة مهينة رُغم وجود عدد من الاتفاقيات بين الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الإنجيلية عالميا ورغم دعم عدد غيـر قليل من الكنائس الإنجيلية للقضية الفلسطينية. ولقد كان التعريف بأنهم يعارضون الكنائس التقليدية ويقرؤون العهد القديم بطريقة أصولية ويعتنقون أيدولوجية صهيونية (ص 137). هذا التعميم والتعريف خال من المسؤولية والدقة ومضلل للكهنة والكنيسة.
في الختام، أرحب بجرأة الكتاب وتقديمه للمسيحيين الفلسطينيين والبيانات الّتي تسعى إلى العدل والسَّلام. فعلا، نحتاج إلى مفاكرة مسيحية تُعيننا على التبصر في القضايا الشّائكة وعلى نشر ثقافة المحبة المتجسدة في شخص ربنا يسوع المسيح. وادعو لجنة العدل والسلام إلى فتح حوار كاثوليكي – انجيلي في البلاد المقدسة لتطوير مفهوم أدق عن هوية ورؤية الكنائس الإنجيلية الحرة في فلسطين وإسرائيل. ولنعمل معا لنشر العدل والسلام. وليس السلام المقصود هو السلام السياسي فقط بل هو أيضا سلام وعدل ملكوت الله الشُّمولي. هذا العدل والسلام يشهد للمسيح المصلوب الذي قام من بين الأموات فتفجّر عهدٌ جديد وبزغت بالمسيح حضارة المحبة والعدل والسلام.