من المعروف أن عدد المسيحيين في الشرق في تقلص مستمر. كما ومن المعروف أن المسيحيين منتمون لطوائف وكنائس مختلفة رغم وحدتهم في العقيدة الأساسية ومرجعية الكتاب المقدس وقانون الإيمان.
في أواخر شهر تشرين الماضي حصل بطريرك القدس الأرثوذكسي ثيوفيلوس الثالث على جائزة الوحدة المسيحية من قبل المؤسسة الدولية لوحدة الدول المسيحية الأرثوذكسية. وفي كلمته في الاحتفال الذي جرى في موسكو في 22 تشرين ثاني الماضي اقتبس البطريرك من إنجيل يوحنا الآية الوحدوية التالية: "لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِدًا، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا وَاحِدًا فِينَا، لِيُؤْمِنَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي"
دعا البطريرك المسيحين في العالم إلى تطبيق مبدأ الوحدة ليس فقط في مجال عمل الكنيسة بل أيضاً إلى ضرورة العمل "لوحدة عالم منكسر ومقسم." كما دعا رؤساء الكنائس الأرثوذكسية لزيارته في مقره في الأردن.
لا شك أن الجائزة المقدمة لغبطة البطريرك جاءت بعد سلسلة من القرارات المسكونية والتي جسدت الوحدة بين الطوائف التاريخية وخاصة الطوائف المسؤولة عن إدارة كنيستي القيامة وكنيسة المهد. فقبل عدة سنوات توحدت الكنائس الثلاث (الأرثوذكس والكاثوليك والأرمن) في إغلاق أبواب كنيسة القيامة للاحتجاج على فرض إسرائيل ضرائب على الكنائس ومؤسساتها في مخالفة واضحة للوضع القائم منذ أكثر من قرن والمعروف باتفاق الستاتس كو status quo . كما وكان لموافقة الكنائس على صيانة القبر المقدس وقبول المنحة المقدمة من قبل الملك عبد الله الثاني أثراً إيجابياً لدى كافة المؤمنين من مواطنين وحجاج. وقد كان آخر تلك القرارات الوحدوية تجاوب الكنائس بقيادة الكنيسة الأرثوذكسية الأم بتمديد ساعات فتح كنيسة المهد لاستيعاب العدد الكبير من الحجاج المسيحيين في فصل الشتاء بثلاث ساعات وهو الأمر الذي خفف من الضغط وضمن للحجاج فرصة تحقيق هدف زيارتهم للأراضي المقدسة.
ولكن وحدة الكنيسة يجب أن لا تتوقف عند الحجر بل يجب أن تشمل البشر. فكما أصبح واضحا، لا بد من العمل الوحدوي للحفاظ على ما تبقى من مسيحيين في مشرقنا الحبيب.فقد أصبحت الحروب والاحتلالات والصعوبات التي تواجه الجميع فرصة سهلة لمن له علاقات مع الخارج لترتيب ما يتطلب للهجرة الدائمة، الأمر الذي أدى إلى تفريغ بلادنا من الحجارة الحية وهي الشعب المسيحي الذي من واجبه أن يجسد ما جاء في الكتاب المقدس بان يكونوا "ملح الأرض" "ونور العالم".
فمن أجل تحقيق هدف البقاء، على الكنيسة الموحدة مواجهة تحديات كبيرة أولها العمل على ضمان حقوق المواطنين من بطش الاحتلال واستغلال الغرباء والفاسدين والعمل الدؤوب على توفير فرص العمل والسكن وسائر شروط الحياة الكريمة. وفي هذا المضمار يجب تقديم الشكر للبطريك ورؤساء الكنائس لدعم رغبة غالبية أبناء وبنات الرعية في تعديل الشروط المتعلقة بموضوع مساوات الرجال والنساء في مجال الإرث، الأمر الذي سهله التعديل الأخير لقانون الطوائف رقم 28 لعام 2014 الذي أصبح قانون الطوائف المسيحية، مع الأمل أن يتم الانتهاء من تطبيق ذلك في كافة الأطر التشريعية الكنسية والحكومية بأسرع وقت.
أما في مجال قانون الطوائف المسيحية وبالذات قانون الأحوال الشخصية، فلا بد من حل إشكال وجود عدد كبير من المسيحيين في بلادنا خارج المنظومة التشريعية بسبب عدم السماح لكنائسهم تشكيل محاكم كنسية لكونهم خارج الكنائس الثلاث عشر المعترف بحقها في إقامة محاكم لتنظيم شؤونهم الشخصية. ورغم أن تلك الكنائس التي تعمل ضمن مجمع الكنائس الإنجيلية الإردنية يزيد عدد أعضائها عن العشرة آلاف ولها نشاطات تربوية واجتماعية منذ أوائل القرن الماضي، إلا أن الحكومات المتتالية لم تسمح لها بتشكيل محاكم كنسية تحت ذريعة أن الكنائس التاريخية تعارض ذلك. فيوجد الآن تحت مظلة المجمع الإنجيل ثمانون كنيسة تؤمن بقانون الإيمان وتلتزم بالكتاب المقدس وتشارك الكنائس التاريخية في دول أخرى.
إن حرمان الحكومة الأردنية لغاية الآن لهذه الكنائس في إقامة محكمة كنسية، سلب من حق كفله الدستور في البند السادس والذي ينص على مساوات الأردنيين دون تميز حسب الديانة. والأمر المثير للاهتمام هو أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أصدر مؤخراً مرسوماً رئاسياً بالاعتراف بالمجمع الإنجيلي الفلسطيني وهو شريك مع المجمع الاردني في اتحاد المجامع الانجيلية في الاردن والاراضي المقدسة..
لا شك أن خبر جائزة الوحدة المسيحية لغبطة البطريرك أمر غاية في الأهمية وله دلالات كثيرة، إلا أنه من الضروري الاستمرار في العمل الوحدوي من خلال التركيز على الأمور المشتركة المتفق عليها والابتعاد عن الأمور الصغيرة. إن أهمية مبدأ الوحدة المسيحية الذي أشار إليه البطريرك لدى تسلمه الجائزة المذكورة تكمن في أن يعمل الجميع على ترجمته في أرض الواقع.
كلنا أمل أن يهمس غبطة البطريرك في آذان مطارنته والأباء الأجلاء ضرورة البحث عن تلك الأمور المشتركة التي توحد خاصة في ايام العيد المجيد كي يعمل الجميع معاً لمواجهة التحديات الكبرى المتعلقة في بناء وتربية العائلة المسيحية والحفاظ على الشباب والشابات من إغراء الهجرة والابتعاد عن الإيمان والعقيدة الموحدة.
- الكاتب مواطن مسيحي عربي مقيم في عمان والقدس
داود كُتّاب