قصدت أن أبرز المحبة والتواضع والعطاء في عنوان المقال، كي نتذكر ونذكِّر أن الميلاد مرتكز على هذه الأعمدة الثلاثة، فغياب أو نقص في أحد منها، كم بالحري كلها، سوف يفقد من معنى الميلاد وجوهره.
من ميلاد لآخر نرى بشكل ملحوظ ازدياد اهتمام العالم بهذا العيد، من مسيحيين وغير مسيحيين، وهذا "الاهتمام" يتجلى في ازدياد الاحتفالات والزينة والأضواء والهدايا والملابس والحفلات والسفرات، وفي الآونة الأخيرة ظهر "ضوء" جديد اسمه "سوق الميلاد".
هذا السوق ينتشر شيئا فشيئا في عدة قرى ومدن، ليعرض منصات عديدة ومتنوعة من أغاني، مغنين ومغنيات، راقصين وراقصات، أطعمة ومشروبات على أنواعها، الخفيفة والروحية، وليس ذلك فقط، بل وفي أماكن معينة، وبينما أنت تتجول في هذه الأسواق، يمكنك أن "تشم"، دون قصد منك (وهذا ما نرجوه)، روائح غريبة، بالذات في المنصات التي تعرض المشروبات الكحولية، وعندما استفسرت عن ماهيتها اتضح أنها نوع من أنواع المخدرات التي "تبسط" الشباب والشابات وتجعلهم "مكيّفين" بل و- "مسطولين" (عذرا على التعبير)، طبعا بالإضافة إلى الإفراط في احتساء البيرة وغيرها، وعندما تكون الموسيقى الصاخبة في خلفية هذه الأجواء، ومع اجتماع الشباب والصبايا بكم هائل في مكان واحد، يمكن أن نتخيل الصورة التي تنتج من هذا السيناريو، والذي هو في عقر دار ما أسموه "سوق الميلاد" !
كيف يجرؤون التجارة على حساب ميلاد المسيح بعيدا عنه كل البعد ... كم يذكرنا ذلك عندما طرد الرب الصيارفة وباعة الحمام من بيته، معاتبا إياهم بأن بيته بيت الصلاة يدعى، "وأنتم جعلتموه مغارة لصوص".
كي لا يُساء الفهم، فأنا شخصيا لست ضد الاحتفالات بالعيد، بما في ذلك سوق الميلاد، بل وأفرح عندما أرى مجتمعنا، بكل فئاته وأطيافه، يحتفل بهذا العيد المجيد، ولكن ما يؤسف هو أن العيد فقد جوهره في الكثير من قرانا ومدننا، وبات كأنه عيد وطني أو تقليد خال من أساس العيد بل ومن صاحب العيد نفسه، يسوع المسيح له كل المجد.
لنتخيل مشهدا فيه يصادف عيد ميلادي، فأدعو الأصدقاء والأقارب والأصحاب كي يشاركوني فرح مرور سنة جديدة وقدوم أخرى في حياتي، يأتي موعد العيد، وأنا في انتظار المدعوين ليشاركوني هذه المناسبة السعيدة بفارغ الصبر، يحضر المدعو الأول والثاني والثالث والعاشر ... ثم الخمسين، وما من أحد من هؤلاء يأتي ولو ليصافحني بعيدي أو ليهنئني أو ليتمنى لي عيد ميلاد سعيد وليتكلم معي ويبادلني بعض الحديث ... بل ينهمك أولئك المدعوين باحتساء المشروبات وتناول الطعام ويفرحون ويرقصون ويقفزون بينما أنا قابع في زاوية المكان دون أن "يعبّرني" أحد أو يعيرني اهتماما بأقل درجاته !
ما أصعب هذا المشهد وما أقسى ذلك الموقف ... فكم وكم يكون الموقف عسيرا عندما يكون الحديث عن رب الأرباب وملك الملوك، الذي أخلى نفسه آخذا صورة عبد في شبه الناس، وهذا تم بداية بميلاده، ثم أطاع حتى موت الصليب ليفدينا نحن البشر من عار الخطية وعقاب الموت ...
إن الميلاد، بكل بساطة، يحوي بجوهره أسمى معاني المحبة والتواضع والعطاء، فهو ابتدأ بمحبة الله للبشر ولكل العالم "حتى بذل ابنه الوحيد"، أي بالميلاد، وتم الميلاد بولادة يسوع في مذود أعد لمأكل البهائم، بينما أُعلنت ولادته لرعاة بسطاء "كي يبطل الموجود"، وهذا أسمى معاني التواضع، والعطاء تجلى بأن الله "بذل ابنه الوحيد" كي يموت عنا ليعطينا حياة بدل الموت وخلاصا بدل الهلاك ورجاء عوض الروح اليائسة !
من هنا، فالاحتفال بالميلاد لا بد أن يحمل معه أسمى هذي المعاني بشكل عملي في حياتنا، بأن يحب بعضنا بعضا كما أحبنا المسيح، بأن نتواضع ونتذكر أن هناك الملايين من الناس، من أطفال وبالغين، الذين ليس لهم مكانا ليسندوا رأسهم أو لقمة عيش ثابتة ليأكلوها أو أهل أو أولئك الذين فقدوا عزيزا أو أكثر في ظروف عصيبة أو أولئك المدمنين على المخدرات والكحول وأمور أخرى الذين "اقتنصهم" إبليس لإرادته، أو أولئك المهمشين والمنبوذين والذين رفضهم المجتمع والناس، بل والأقرب إليهم، ومن هم في حروبات وأمراض وصعوبات كثيرة.
في هذا الموسم بالذات حري بنا أن نعطي من أوقاتنا وأموالنا وقوتنا ومواهبنا وصلواتنا وتركيزنا على الآخر ومن هم في حاجات وظروف صعبة من شتى الأديان والأطياف واللغات، أيا كان. في هذا الوقت بالذات يجدر بنا أن نخرج من قارب الأمان ومن سرير الراحة القابعين فيه ونخرج للعالم المتألم لنعضد اليتيم ونشدد الأرامل ونزور المرضى، حاملين معنا رسالة الميلاد والخلاص والرجاء لكل هؤلاء، رسالة المحبة والتواضع والعطاء.
بهذا سوف نعيّد لصاحب العيد ونتمم مقاصده ونسر قلبه. نعم هو يستحق ذلك وأكثر، في عيده بالذات.