تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية القوة العظمى الوحيدة في عالمنا المعاصر. لعل السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا لم تتحدث نبوءات الكتاب المقدس لا بالتلميح ولا بالتصريح عن الولايات المتحدة الأمريكية؟ للإجابة عن هذا السؤال الهام أقول هناك احتمالان: الأول: أنه لا دور للولايات المتحدة الأمريكية في سيناريو أحداث نهاية العالم. الثاني: أن نبوءات الكتاب المقدس المتعلقة بأحداث معينة قد تمّت جميعها في الماضي، ولهذا لم يأت الوحي على ذكرها. لقد رجّح معظم مفسّري النبوءات المتعلقة بما يسمّى سيناريو أحداث نهاية العالم الاحتمال الأول. وقالوا أن لا دور للولايات المتحدة في ذلك السيناريو. لكن كيف توصل أولئك المفسرون إلى هذه النتيحة؟
لكي أوضح هذا الأمر عليّ أن أعود قليلاً للوراء ، الى زمن العهد القديم. ولعلّ أبرز الأنبياء الذي يعتمد الكثيرون على نبوءاتهم هو النبي دانيال. ففي سفره أو كتابه أخبر الوحي النبي دانيال بواسطة الرؤى والأحلام، عن الامبراطوريات أو الممالك التي ستحكم الشرق الأوسط من أيامه حتى مجيء المخلّص الملك يسوع المسيح. وهي على التوالي: المملكة البابلية، مملكة الفرس، مملكة اليونان، وأخيراً الامبراطورية الرومانية التي سيجيء المخلّص الملك المسيح في زمانها. وتحدث سفر دانيال عن بعض التفاصيل الهامة لكل مملكة، ولا سيما المملكة الرابعة الرومانية(1). ولقد حدّد النبي دانيال في الأصحاح التاسع من سفره موعد مجيء المسيح بالضبط. لقد افترض هؤلاء المفسرون خطأ، أن الامبراطورية الرابعة الرومانية ستعود إلى الظهور على شكل اتحاد اوروبي يجمع عشر دول. وسيكون لهذه الامبراطورية وحاكمها دور رئيسي يلعبه في سيناريو أحداث نهاية العالم.
أنتقل الآن إلى نبوءة المسيح عن حادثة دمار الهيكل وخراب أورشليم، التي حصلت في عام 70 ميلادية، وهو ما سجلته لنا بشائر الإنجيل في متى أصحاح 24، ومرقس أصحاح 13، ولوقا أصحاح 21. وهنا أيضا افترض هؤلاء المفسرون خطأ أن المقصود من نبوءة المسيح لم يكن دمار الهيكل الذي حصل عام 70 ميلادية فحسب، بل أحداث أخرى ستحصل في المستقبل، وتكون جزءا أساسياً من سيناريو نهاية العالم.
وأخيراً أنتقل إلى سفر الرؤيا، وأقول باختصار شديد، أن هذا السفر تحدث عن الاضطهاد الروماني العنيف للكنيسة المسيحية الناشئة في القرن الميلادي الأول، وانتصار المسيح النهائي. وأشار بشكل واضح إلى مدينة روما عاصمة الامبراطورية الرومانية في ذلك الوقت، لا بل حدد الأباطرة الرومان الذين كانوا في ذلك الزمان. وهنا أيضاً افترض أولئك المفسرون خطأ أن المقصود هنا هو الأحداث التي ستحصل خلال السبع سنوات عند نهاية العالم، وظهور الوحش العتيد، ومعركة هرمجدون(2) وغيرها من التفسيرات.
لعل المشكلة هي: كيف توصل أولئك المفسرون إلى هذه النتيجة؟ للجواب أقول: لقد ربط هؤلاء المفسرون بين نبوءات سفر دانيال ونبوءة المسيح في البشائر الثلاث، وبعض ما كتبه الرسول بولس في رسائله، وما جاء في سفر الرؤيا. واستندوا على فرضيات خاطئة لكي يقدّموا مع الأسف تفسيرات لسيناريو أحداث نهاية العالم. وبما أن هذه النبوءات لم تأت على ذكر الولايات المتحدة الأمريكية، اعتبروا أنه لن يكون للولايات المتحدة الأمريكية أي دور في سيناريو نهاية العالم.
لكن هناك برأيي سبب منطقي آخر دفع هؤلاء المفسرين بالاتجاه نحو هذه التفاسير. لقد بدأت هذه التفاسير في الثلث الأول من القرن التاسع عشر مع ظهور اللاهوت التدبيري(3). وفي تلك الأيام لم يكن للولايات المتحدة الأمريكية أي دور في السياسة الدولية. كان عدد سكان الولايات المتحدة عام 1830 حوالي 13 مليون نسمة بما فيهم العبيد. وبتعبير آخر كانت الولايات المتحدة الأمريكية ما تزال دولة ناشئة. ولو كان العكس، أي لو كانت أمريكا قوة عظمى وحيدة في العالم، كما هو اليوم، لا أظن أنهم كانوا سيتجهون نحو هذه التفاسير غير الصحيحة. وهذا بحد ذاته يؤكد وبطريقة غير مباشرة عدم صحة افتراضاتهم التي وضعوها حول أحداث سيناريو نهاية العالم. فمن غير المقبول أن نضع اليوم أي سيناريو لأحداث نهاية العالم - إذا كان هناك أي سيناريو- يتجاهل دور الولايات المتحدة الأمريكية الرئيسي في عالم اليوم.
وهنا نستنتج أن الاحتمال الثاني هو المرجح، أي أن نبوءات الكتاب المقدس المتعلقة بأحداث معينة قد تمّت جميعها في الماضي، ولهذا من الطبيعي أن لا يأتي الوحي على ذكر الولايات المتحدة الأمريكية. وهذا يؤكد من ناحية أخرى أن كل النبوءات الكتابية كانت تتعلق بتاريخ العالم لما قبل مجيء المسيح وبعد مجيئه بعدة قرون فقط، وأن لا علاقة لها من قريب أو بعيد بما يسمّى بسيناريو أحداث نهاية العالم.
إن اللاهوت التدبيري ما زال يتجاهل حقائق العالم المعاصر، ويصر على تفسيراته القائمة على افتراضات خاطئة. فهو لم يراجع افتراضاته على ضوء واقع العالم الحقيقي اليوم. إن السيناريو لأحداث نهاية العالم الذي وضعه اللاهوت التدبيري أصبح خارجاً عن الواقع الملموس، ولا نستطيع الأخذ به. مع العلم أن هذا السيناريو يتبدل دائماً مع بروز احداث تاريخية جديدة وتطورات هامة. فهل يتراجع التدبيريون عن افتراضاتهم الخاطئة؟ وهل يعودون إلى التفسير المنطقي الوحيد لنبوءات الكتاب المقدس؟
إذا إن كل ما أتت به النبوءات الكتابية كانت له علاقة بتاريخ العالم لما قبل مجيء المسيح وبعد مجيئه بعدة قرون فقط، باستثناء النبوءات عن المجيء الثاني للمسيح ونهاية العالم والدينونة الأخيرة. استنادا على ما سبق يصبح من المنطقي أن لا نجد الولايات المتحدة الامريكية في أية نبوءة كتابية.
1) سفر دانيال أصحاحات 2، 7، 8، 9، 11.
2) السبع سنوات: هي السبع سنوات الأخيرة قبل نهاية العالم مأخوذة بافتراض خاطئ من سفر دانيال
الأصحاح التاسع. والوحش العتيد: هو ديكتاتور عالمي سيظهر في المستقبل، يحكم بدهائه العالم الغربي بشكل خاص، ويحاول خداع شعب إسرائيل ثم يتحوّل ضده. أما معركة هرمجدون: فهي المعركة الأخيرة الكبرى بين جيوش العالم في شمال فلسطين. هذا طبعاً بحسب هذه التفاسير النبوية.
3) ظهر اللاهوت التدبيري مع جون داربي عام 1830. وهو الذي يؤمن أن الله يتعامل مع الإنسان من خلال سبعة تدابير. ويركز على علاقة الله مع شعب إسرائيل التي يعتبرها ما تزال قائمة، وأيضاً على أحداث نهاية الزمان والمجيء الثاني للمسيح.