يأتي "العيد الكبير" الفصح- - هذا العام في خضم ازمة وبأ الكورونا العالمية. وللوهلة الأولى نفترض ان الحدثين المتزامنين (الحدث التاريخي والايماني من جهة والوبأ من جهة أخرى) غير مرتبطان وانما هما خطان متوازيان لا يلتقيان. هل الإشكال الوحيد هو كيف نعيّد ونحن قابعون في حجز وحجر في البيوت في الوقت الذي يتميز هذا العيد بفعاليات جماهيرية وكنسيّة مختلفة بحسب التقليد الكنسي الذي تتبعه كنيستنا؟ هل الصعوبة الوحيدة هي كيف نشترك في دورة الشعانين وخدمة غسل الارجل وجناز المسيح وفيض النور والهجمة وطبعاً الاحتفالات والصلوات والخدمات الروحيّة الفصحيّة وبرامج الترانيم والمسرحيات وحتى العشاء الرباني في الكنائس؟ ام يا ترى هي تتلخص باستحالة الورشات العائلية لصناعة كعك العجوة والمعمول وصبغ البيض وتحضر الارانب الملونة من كرتون ولقاء الأحباء وموائد الاحتفال ومشوار العائلة يوم العيد او حتى متعة السفر للخارج- وكلها ايضاً من مميزات العيد- المحظورة حالياً؟ هل بفقدان هذه الاحتفالات الكنسية والروحية الجماعية والطقوس الشعبية والبرامج العائلية والفردية- فقدنا جوهر العيد وخسرنا بركة هذا العام؟
لا شك ان استحالة المشاركة الفعلية بالجسد مع باقي جسد المسيح بكل هذه البرامج يشكل خللا واضطراباً يهز الأعماق، ويخلق ضيقاً لمن يشعرون انهم أسرى المكان في زمن عيد الحرية التي منحنا إياها المسيح بالصليب.
رغم رونق العيد المتمثل بلقاء الأحباء والفعاليات الشعبية المشتركة والخدمات الكنسيّة وحتى التقليدية منها والذي يقرّب الناس لله ولبعضهم البعض، غير انها فرصة لنركّز في جوهر العيد دون القشرة الخارجية ودون وسائط او وسائل مساعدة.
لنضع الأمور في نصابها الصحيح: اولاً يوضح لنا الكتاب المقدس ان عبادتنا هي عقلية (او منطقية بحسب ترجمات أخرى) في جوهرها (رومية 12: 1). أي اننا نعتمد استخدام عقولنا في تقديم العبادة للرب- بمعنى التأمل في صليبه والتفكير في تضحيته عنا مقابل توجهنا القلبي ولياقة حياة كل واحد منا. ثانياً، في مجمل حواره مع المرأة السامرية عند بئر سوخار تحاول الأخيرة ان تَحرِف الحوار لنقاش جانبيّ عن مكان العبادة الأفضل، فتطلب من يسوع ان يحسم أي موقع هو مكان العبادة الصحيح هل هو في أورشليم ام في جبل جرزيم، حيث يعبد السامريون؟ فيجيبها يسوع: "...لا في هذا الجبل، ولا في اورشليم تسجدون للاب ... ولكن تأتي ساعة، وهي الآن، حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق، لان الاب طالب مثل هؤلاء الساجدين له"(يوحنا 4: 21 و 23). بكلمات أخرى- الرب يؤكد أن مكان العبادة الجغرافي ليس هو المهم، وانما الأهم هو العبادة بالروح والتكريس والمحبة لله مهما كان موقع الصلاة. من هنا –فالصلاة في البيوت مقبولة طبعاً عند الرب واكثر.
ان التكيّف السريع للوضع الجديد يتطلب طاقة إبداعية ونشاط ومبادرة لخلق الأجواء المناسبة في البيوت للعبادة والاحتفال بالعيد. هذه الصفات يحبها الله في خليقته التي خلقها على صورته كشبهه. فهو الإله المبدع في خلقه، نشيط في تعاملاته مع البشر والمبادر في محبته وخلاصه.
الفصح هو مركز الإيمان المسيحي. فيه تمّت خطة الله للبشرية بموت الصليب الكفاريّ في الجلجثة عن خطية البشرية. وهكذا يعيّد ويتذكر المسيحيون هذا العمل الفدائي بالصوم والصلاة والشكر لله على هذه العطية. واكثر من ذلك- دون الانتقاص من جمال وفائدة مظاهر العيد المختلفة- لكن الكتاب المقدس يركز على ان ما يرضي الله هو عيد نعيّده بالإخلاص والحق ( 1 كو 5: 8) . ولنطبق هذه الوصية يتوجب فحص الذات وتغيير طرقنا لنعيّد بالإخلاص والحق.
وفي الوقت الذي يصوم البعض عن ملذات من مأكولات وصفات سيئة يصبح القبوع في البيوت والحرمان من كل ما سعدنا بعمله في العيد هو لربما أفضل صوم يقربنا من الله وبهذا نسعى للتشبه بالرب بآلامه ومعاناته خلال أسبوع الآلام وقبله. إضافة لذلك، الصوم والامتناع عن مظاهر العيد وحتى اللقاء مع بعضنا البعض، يجعلنا "نتجسد" اذ نتماثل ونتعاطف مع المحرومين من تلك النِعَم بشكل دائم بسبب الفقر أو او قهر حكوماتهم.
في ذات الوقت-الحجر المفروض علينا في بيوتنا لا يمنعنا من قراءة كلمة الله ولا من مشاهدة خدمات كنسيّة على التلفزيون او على الانترنت والتفاعل معها. بعض البرامج والتطبيقات على الانترنت تسمح ايضاً بالتفاعل للمشتركين فيها وليس مجرد المشاهدة من بعيد. وهكذا تسمح البرامج لصلوات مشتركة عن بُعُد وحديث وشركة مع بعض. يخلق هذا كنائس في كل بيت وآخر- مذابح عائلية للصلاة والترنيم والعبادة مما يسر قلب الرب الذي سيتنسم رائحة الرضى منها.
ابليس قصد شراً بالناس ولكن الرب قادر ان يُخرج من الجافي حلاوة.
كل عام وأنتم بألف خير!