ليس صدفة، برأيي، أن الأزمة التي يمر فيها عالمنا تواكبت مع موسم الفصح، والذي يعود بنا إلى أيام عبور شعب إسرائيل البحر الأحمر باتجاههم نحو أرض كنعان، كيف لا وكلمة "فصح" تعني "عبر" (פסח).
ليس أيضا صدفة أنه في أول أسبوع من فترة الكورونا، مرّت في ذاكرتي صورة شعب إسرائيل وهو في برية سيناء، عندما كان صاعدا من أرض مصر، التي ترمز للعبودية، إلى أرض الموعد، التي ترمز للحرية، وعندما تأملت في هذا المشهد كم رأيت تشابها بين هذه الصورة والوضع في أيامنا، بالذات أن هذه الفترة تزامنت وعيد الفصح.
كان الشعب العبراني، في فترة عبوره المذكورة، يعيش حقبة زمنية مؤقتة في قلب برية سيناء، حيث لا طعام ولا ماء، لا طريق ولا طبيب ولا أي مؤشر أو مبشر للطرف الآخر من النفق، فكان هناك الكثير من الأسئلة والتساؤلات والحاجات، وكان المجهول أكثر من المعروف بكثير، وكأن الشعب يعوم في ظلمة ما بعدها ظلمة، وبالتالي فلم تكن الرحلة سهلة أبدا، بل محفوفة بالمخاطر والمجهول وعدم اليقين، وليس صدفة أن الله اختار موسى ليقود هذه المخدومة، فدرّبه أربعين سنة ليقود شعبا بأكمله، لم ير منه، في أغلب الأحيان، سوى التذمر والعصيان والخطية، كما قال بولس أن بأكثرهم لم يسر الله، فلم يدخل "أرض الموعد" إلا يشوع بن نون وكالب بن يفنة (إقرأ من فضلك 1 كو 10: 1-14).
لو تمعنا في فترة العبور، نلاحظ ثلاثة أمور أساسية كانت من "دور" أو "مسؤولية" الله تجاه الشعب، وثلاثة أمور كان ينبغي أن تكون من دور ومسؤولية الشعب تجاه الله.
دور الله تجاه الشعب:
(1) تأمين القيادة:
لم يكن الشعب يعرف طريق العودة لأرض كنعان، فقادهم الله ب-"ويز" سماوي: عمود سحاب في النهار وعمود نار في الليل، كانا يسيران أمام الشعب كل الرحلة، بطولها وعرضها، وكان الأمر بحاجة كبيرة للإيمان والطاعة اليومية، فهم يجهلون الطريق ولا يوجد لهم أي دليل سوى العمودين المذكورين (خروج 13: 22).
من الملفت للنظر والجدير بالذكر، أنه كان من المفروض أن هذه الرحلة تنتهي بفترة وجيزة، إلا أن الله سمح بإطالة زمن العبور كي يدربهم على مواجهة الصعاب التي ستواجه الشعب، ولئلا يخوروا أو يستسلموا في الطريق، فيقول في سفر الخروج (13: 17-18):
"17 وكان لما اطلق فرعون الشعب ان الله لم يهدهم في طريق ارض الفلسطينيين مع انها قريبة. لأن الله قال لئلا يندم الشعب اذا راوا حربا ويرجعوا الى مصر. 18 فأدار الله الشعب في طريق برية بحر سوف. وصعد بنو اسرائيل متجهزين من ارض مصر".
نعم – لقد سمح الله بإطالة الطريق كي يدرب ويمتحن شعبه على الصمود والتمسك بالرب وبوعوده الصادقة في كل مواجهة مع العدو، فهو السائر أمامهم وهو القائد الذي لن يخل بوعوده. إضافة لذلك، لقد سبق الرب وعلمنا بضيق الباب وكرب الطريق المؤدي للحياة، وقليلون هم الذين يجدونه (متى 7: 14).
لا نعلم كم سيطول زمن الوباء، ولكن نعلم أن الله يؤمن لنا القيادة في موكب النصرة كي لا نتوه في الطريق.
(2) تسديد الاحتياج:
كان الشعب، في فترة العبور، يعيش في برية صحراوية عسيرة، فيها انعدمت مصادر المعيشة كالطعام والشراب، فأطعمهم الله من خبز ولحم السماء، المن والسلوى، وأخرج لهم الماء من الصخر (خروج 16، مز 105: 41).
نعم – الله هو الكفيل بتسديد الاحتياج، حتى لو انعدمت مصادر المعيشة، بالذات في الأزمة التي نعبرها، فالله هو الذي أطعم الشعب في العبور، وهو الذي سخّر الغربان لتعيل إيليا (1 مل 17: 4)، وهو الذي قال: "تأملوا زنابق الحقل، إنها لا تزرع ولا تحصد وليس لها مخدع ولا مخزن واالله يقيتها، كم أنتم بالحري أفضل من الطيور" (لو 12: 24).
الله كفيل بتسديد الاحتياج بحسب غناه في المجد، فلا نقلق أو نضطرب.
(3) ضمان الحماية:
بينما كان الشعب في صحراء العبور أتت عليهم الحيات المحرقة وبدأت بقتلهم، عندها طلب الرب من موسى أن ينصب الحية النحاسية بمكان مرتفع، فكل من مجرد نظر إليها نال الشفاء.
نعلم أن الحية النحاسية ترمز للمسيح الذي رُفع على الصليب لأجل كل العالم كي يضمن الخلاص والشفاء من لدغة إبليس – الخطية لكل من يقبل عمل خلاص المسيح في حياته (يوحنا 3: 14-16).
يسوع هو ضمان الحماية لكل من ملّكه ربا وسيدا على حياته، "لأنه ينجيك من فخ الصياد ومن الوبأ الخطر" (مزمور 91: 3)، ويُكمل صاحب المزمور ويقول: "لا تخشى من ... وبأ يسلك في الدجى..." (آية 5).
وهناك ثلاثة أمور أساسية يتوقعها بل ويطلبها الله منا، بالذات ونحن عابرون في هذا الوادي، نتعلمها من فترة العبور للشعب العبراني المذكورة، الذي وللأسف لم ينجح فيها في أغلب الأحيان.
(1) عدم التذمر – حياة الشكر وسط الضيق:
لطالما غضب الله على الشعب في العبور لكثرة تذمره، إن كان على الطعام أو الشراب أو قلة الإمكانيات وعدم الاستقرار، ولولا وقوف موسى في الثغر لكان أفناهم وعمل أمة أخرى تعبده (خروج 32: 10، مزمور 106: 23).
بينما نحن نعبر هذه الفترة من الأزمة، لنحسبه كل فرح أننا واقعون تحت هذا الضيق (يعقوب 1: 2)، بل لنشكر الله ونقول مع أيوب: "الخير من عند الله نقبل والشر لا نقبل؟" (أيوب 2: 10). الحذار الحذار من التذمر والشكاية وحياة التأفف: "متى ستنتهي هذه الفترة ... كيف سندبر أمورنا ... ماذا عن المشاريع التي خضناها أو خططنا لها ... ماذا عن حساب البنك ... الطعام ... الشراب ... التنزه ...". لا يخفى عنا أن الرب سبق وأنبأنا: "في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم" (يوحنا 16: 33).
(2) عدم النظر إلى الوراء:
كذلك لطالما تمنى الشعب في فترة العبور الرجوع إلى مصر، فعادوا بقلوبهم إلى هناك على الرغم من العبودية التي عاشوها وعانوا منها بشدة، فتذكروا الثوم والكراث والبصل والبطيخ والقثاء (عدد 11: 5)، ولكن نسوا العبودية والقساوة والاستعباد والظلم والخطية، وبسبب غلاظة قلوبهم نسوا أنهم مجرد عابري طريق نحو مكان أفضل.
يا ليتنا نرفض الرجوع في أفكارنا وحياتنا إلى "مصر"، فلا تنمنى عودة الحياة كما كانت قبل الوباء، بل نصلي أن الرب يستخدم هذا الضيق لأجل امتلاك أراضي جديدة لامتداد ملكوت الله على الأرض، وكي تتهيأ عروس المسيح لملاقاة عريسها المسيح. ليعطنا الرب هذا الإيمان أن الآتي أفضل، ولنتذكر كلمات الرب يسوع الذي قال: "ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر الى الوراء يصلح لملكوت الله" (لوقا 9: 62).
(3) حياة القداسة:
كثيرا ما أخطأ الشعب في العبور، فتذمروا وتكبروا (كقورح – سفر العدد 16) واشتهوا شهوة ورجعوا بقلوبهم للوراء، وكانت النتيجة أن "بأكثرهم لم يسر الله" كما أسلفنا في مستهل الكلام، وربما الخطية الأكبر كانت عندما صنعوا العجل الذي عبدوه، "فجلس الشعب للأكل والشرب ثم قاموا للعب" (خروج 32: 6)، و"اللعب" هنا هو ممارسة الخطية والنجاسة والدعارة، الذي سبّب الغضب الإلهي، حتى إن الله كان على وشك أن يهلك الشعب، لولا موسى الذي تشفع أمام الله ووقف في الثغر لصرف هذا الغضب.
الله يطالبنا بحياة القداسة بكل الأحوال، فكم بالحري في وقت الضيق الذي نعبره، كما يؤكد لنا الرسول يعقوب: "أعلى أحد بينكم مشقات فليصل" (يعقوب 5: 13)، ففي هذه الأيام بالذات نحتاج أن نقترب أكثر إلى الله، نمزق قلوبنا ونتضرع كي يقدسنا أولا، فننمو أكثر في معرفته وقوة قيامته وشركة آلامه متشبهين بموته.
ليتنا، بالذات في هذا الضيق الذي نعبره وفي هذا الفصح الذي نجتازه، أن ندرك أن القيادة هي للرب، فنسلمه بالكامل، أن نعلم أنه يسدد الاحتياج مهما تأزم الوضع، وأنه مسيّج حولنا بحماية سماوية من كل وبأ. ليتنا نشكر الله على كل وضع يسمح فيه، نفرح في الضيق بل ونشترك في آلام المسيح الذي تألّم قبلنا، ننظر إلى الأمام مثبتين أنظارنا على رئيس إيماننا ومكمله ونعيش حياة القداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب. ليتنا نقوم ونعمل ونتجهز وندرك أن الله معنا ويريد الأفضل للعالم، مؤمنين وخطاة، لنشترك في آلام المسيح بعبورنا هذا الوباء وهذا الفصح، ونهتف ونقول مع الروح والعروس: "آمين تعال أيها الرب يسوع".