• مُذكّرات من طريق عمواس ... القس عازر عجاج
مُذكّرات من طريق عمواس ... القس عازر عجاج

أيّها العزيز، لقد حيّرتنا أحداث الصلب هذه، فتركنا أورشليم أنا وكليوباس وسرنا وحيدين، متّجهين من أورشليم الى عمواس، يعترينا الحزن واليأس، الخوف والاضطراب، فالشّخص الّذي رافقناه مدّة طويلة قد مات. كانت مسيرتنا مسيرة خيبة أمل وفشل وشك، فنحن كنّا قد بنينا الكثير من الآمال على هذا المعلّم، لقد ظننا أنّه هو المزمع أن يخلّص إسرائيل ويعيد لها مجدها الأدبيّ والسياسيّ. لكن كلّ هذه الآمال قد تبخّرت وذهبت أدراج الريح. وأدركنا أنّ كلّ القصور الّتي بنيناها كانت قصور من رمال انهدمت حين هبّت عليها عواصف حقد رجال الدّين والفريسيّن، ولطمتها أمواج مُراءاة ونِفاق بيلاطس والرّومان.

 

منذ أن بدأنا بالسّير كنّا نتناقش ونتساءل لكن بدون أن يكون لأحدنا جواب أو فهم. فنحن لم نفقد آمالنا وحسب، فقد فقدنا إرساليتنا وهدفنا الّذي عشنا من أجله أيضاً. كان نقاشنا "عن جميع هذه الحوادث"، أي الصّلب والموت والدّفن والأخبار المُحيّرة الّتي سمعناها من النّسوة عن القبر الفارغ والّتي أكّدها بطرس. لقد كانت أفكارنا مشوّشة بسبب هذا الكلام، أهو معقول؟ طبعاً لا.

                   

لقد كانت رؤوسنا مطأطأة وكنّا منغمسين بحزننا ومنهمكين بأنفسنا وبكلامنا وبنقاشنا لدرجة أنّنا لم ندرك أنّ هناك شخص آخر يسير بالقرب منّا. وبالحقيقة لقد شعرت ببعض المضايقة عندما أسرع هذا الشّخص بخطواته ليلحق بنا وينضمّ إلينا، فلماذا هذا التّطفل؟ أوهذا هو الوقت لنتحدّث فيه الى الغرباء؟ ألم يرى أنّنا منشغلين بأمور لا تخصّه؟ وليس ذلك فقط بل إنّه لم يكتفِ بالسّير لجانبنا، لكنه ابتدأ يسألنا عن أمور لا شأن له بها:

ماهذا الكلام الّذي تتطارحان به؟ ما هذا الأمر الّذي يجعلكما عابسين؟

وبصورة ربّما فيها بعض الاستهزاء والسّخرية أجابه كليوباس:

يبدو أنّك الرّجل الوحيد في كلّ اسرائيل الّذي لا يعلم بما جرى؟ ألم تسمع الأخبار؟ كلّ العالم يعرف الّا أنت؟

لكن أقول لك الحقّ يا صديقي، أنّه عندما نظر إلينا في تلك اللّحظة شعرت وكأنّ هذا الغريب هو الوحيد الّذي يعرف ما جرى بالفعل. لقد برقت عيناه وعَلَت على شفاهه إبتسامة رقيقة وابتدأ وبصورة مُفاجِأة يوبِخنا، نعم يا صديقي يوبِخنا، فنعتنا بالغبيّان وعديميّ الفهم، وابتدأ يشرح لنا كلمة الله مبتدأً من موسى، مفسّراً لنا كيف كان على المسيح أن يتالّم ويموت وكيف أنّه سيقوم في اليوم الثّالث. أقول لك الحق، بدل أن نأخذ من هذا الغريب موقف العداء وجدنا، أنا وكليوباس، أنّ قلوبنا كانت فرحة ملتهبة متشوّقة لسماع كلامه، في ذلك الوقت لم تعد رؤوسنا منحنية للأرض بل رفعناها لننظر الى هذا الشخص، وبرقت عيوننا بنفس البريق الّذي في عينيّه، وانطبعت ابتسامته الرّقيقة على شفاهنا. مع أنّ الطّريق كانت طويلة ومتعبة الّا أنّ رفقة هذا الشّخص وكلامه جعلنا ننسى مشاقها وطولها، وفي لحظة وجدنا أنفسنا أمام البيت. لقد أراد أن يتابع طريقه، وأقول لك الصّدق أنّنا تحجّجنا أنا وكليوباس أنّ النهار قد مال وأنّه من الأفضل أن يمكث معنا بسبب خطورة السيّر في اللّيل. لكن الحقيقة أنّنا لم نُرد أن نتركه لقد أردنا أن يبقى معنا، لقد شعرنا وكأنّه وجدنا كنزاً. لقد ألزمناه كما ألزم يعقوب في الماضي ملاك الرّب. ولكثرة إلحاحنا دخل معنا الى البيت، وجاء كليوباس إليه ببعض الماء ليشرب ويغسل يديه ورجليه من غبار الطّريق. وثمّ جلسنا لنأكل، فأعطيناه الخبز ليكسره، عندها نظرنا إليه فإذ به لم يعد الشّخص الغريب، بل هو السّيد. نعم لقد إختفى في الحال، تضايقنا للحظة ونظرنا لبعضنا البعض وأدركنا أنّه وإن كان قد غاب عن أنظارنا لكنه لم يتركنا، فإن كان قد إنتصر على الموت فمن سيمنعه أن يكون قريباً منّا دائماً.

 

عزيزي، ألم أذكر لك أنّ قلوبنا كانت ملتهبة فينا حين كان يكلّمنا؟ لكنها التهبت أكثر حين عرفناه. لم نستطع أن نبقى في عمواس بل عُدنا مسرعين الى أورشليم، نعم الى أورشليم، رغم صعوبة ومشقّة الطّريق ورغم مخاطر اللّيل، فمن يستطيع أن يبقى في مكانه بعد أن اختبر هذا الاختبار. لقد أصبح لنا رسالة الآن، إنّ المسيح قد قام منتصراً على الموت وقوّات الجحيم، إنّ اليوم يوم بشارة ونحن لا نستطيع أن نبقى صامتين.

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع "تعال وانظر" هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة رأي هيئة التحرير في الموقع