اشتهر إبراهيمُ بأنَّه رجلُ الإيمانِ الَّذي تركَ بلادَه ليرحل نحو كنعان. وعرفناه كصاحب الكَرَمِ الَّذي أضاف الملائكةَ وكرجل التَّضحية العظيمة الَّذي وضع ابنَه اسحق على المذبح. هو رجلُ الصَّلاة الَّذي تعاهد مع الله. هو نبـيُ الله وصاحب الوعود الكثيـرة. ولكنَّنا قلَّما نتحدَّث عن إبراهيم كرجل حرب. ويعرض لنا سفرُ التكوين معركةً كبيـرة تدّخل فيه إبراهيمُ رجل الحرب فانكشفت أسرارُ الملكوت الإلهي من خلاله.
تدور الأحداثُ حول حربٍ تحالف فيها أربعةُ ملوكٍ ضدَّ خمسة ملوك. فنحن نتحدَّث عن حربٍ كبيـرة ساهم فيها الرجالُ من أكثـر من بلدٍ واحد. وتكشف الحربُ دكتاتوريةَ البشر ومحبتهم لاستعباد الآخرين وعنفهم. لقد كانت نتيجةُ الحرب العبوديةَ والسَّبي والذُّل. وتتطلبت الأحداثُ أن يأخذ إبراهيمُ موقفاً واضـحاً. فهل سيدافع عن قريبه لوط الذي سباه الأعداء؟ وهل سيتحلى بالشجاعة أمام التحديات الكبيرة؟ أجاب إبراهيم هذه الأسئلة بالإيجاب. فخاطر بكلّ شيء وسعى نحو الغزاة الّذين سلبوا ما لا يحق لهم. واستطاع بموارده الشحيحة أن يسترد المسلوب.
وعندما عاد من الحرب حصلت المفاجئةُ. ليست المفاجئةُ انتصارَ إبراهيمَ أو خروج ملك سدوم للقائه، بل انكشاف شخصية مميـزة في أحداث القصة. لقد جاء ملكيصادق، ملك شاليم. ويتعلق اسمه بسيادة البر والعدل والسَّلام. جاءت هذا الشَّخصية بنبيذٍ وخبزٍ وفي اطار الكهنوت لله العليِّ. وجمعت شخصيتُهُ بين الملك والكهنوت. هو الشَّخص الَّذي يتميـز برُتبةٍ كهنوتيةٍ ملوكيةٍ لم يحصل عليها سوى من أقسم له الرَّبُ قائلاً: "أنت كاهنٌ إلى الأبد على رتبة ملكي صادق" (مزمور 110: 4). يُعلن كهنوتُه مُلكَ وانتصار الله على اعدائه. ولقد جاءت هذه الشَّخصية المميـزة لتبارك. جاءت لتُعلن أنَّ إبراهيمَ مباركٌ من الله الَّذي خلق السموات والأرض. جاءت هذه الشَّخصة لتُبـرز قصة أورشليم أو شاليم أو القدس في ارتباط مع خبز ونبيذٍ. وظهر ملكيصادق ليؤكّد أنَّ خطةَ الله ليست إثنية بل هي افتداء الأرض والسَّماء وهي التأكيد على أن أبرام مباركٌ وسيتبارك اسم الله بين الشعوب من خلاله.
وسيطول الحديثُ عن انكشاف ملكيصادق لإبراهيم أن تحاورنا مع عبـرانيين 7، ولكنَّنـي اعتقد أن النبيذَ والخبـزَ في هذه القصة تُظهر طريقة عبادة سيدوم وقعُها إلى أبد الآبدين. لقد جاء السّيدُ المسيح على رتبة ملكيصادق وقدّم أيضا نبيذاً وخبـزاً. ففي الليلة التي أُسلم فيها، أخذ خبـزاً وشكر وكسّر الخبـز وقال: "خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور لأجلكم. اصنعوا هذا لذكري" (1 كورنثوس 11: 24). وبعد العشاء أخذ كأس النبيذ وقال "هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا" (متى 26: 28). وربط السّيدُ المسيح الخبـزَ والخمرَ بقدوم ملكوت الله وانتشار بركة الخليقة الجديدة.
إن القراءة المسيحية لقصة ملكيصادق يجب أن تأخذ قضية النبيذ والخبز بجديةٍ ويجب أن تتأمّل في القصة من منظورٍ مجمل الأسفار القانونية. فإن فعلنا هذا سنعرف إن العبادة ترتبط بفك الأسرى واسترداد المسبي وبتحرير لوط وبنشر البركة الإبراهيمية. ولن تنشر هذه البركة دون سفك دم المسيح وموته وقيامته. بالخبز والنبيذ نتأمّل في الفصح المجيد. ففي فصح موسى تحرر الشّعب من مصر وفي حرب إبراهيم تحرر لوط من العبودية أما في موت المسيح فتحررت الخليقة من عبودية الخطيئة. ونحن مأسورون في الخوف والقلق والأمراض والصعوبات في كثير من الأحيان إلا أنَّ أصعب أسر هو أسر الخطيئة. وفي زمن القيامة نتذكر أعظم ثورة في التاريخ وأعظم شهيد وأعظم قوّة محررة فكّت الخليقة من أنياب الموت ومخالبه. هذا هو رجاؤنا ولن نقبل بهدنة أو بسلام مع دكتاتورية كدرلعومر وسلطان الشيطان على حياتنا لأننا نؤمن أن المسيح قام. حقاً قام. كل عام وأنتم بخير.