خلال الأسابيع الست التي مضت في منطقتنا، سادت في الأجواء غيمة سوداء صعبة قاتمة قاتلة للبعض ومثقلة على كاهل الجميع؛ إنها غمامة الكورونا وتبعاتها من خوف وإغلاق وحذر وشكّ، وقد صاحب ذلك - للأسف - إصابة الكثيرين وموت عدد من المصابين كما ورد في الأنباء التي حملتها محطات التلفاز أو وسائل التواصل الاجتماعي التي امتازت بالسلبية والتشاؤم.
ككنيسة المسيح التي قال عنها الرب يسوع "أنتم في العالم ولكن لستم من العالم". وفي الحقيقة، فإن هذه الآية لا تحتاج إلى تفسير عميق حتى نفهم أن قصد الرب أننا نحيا في هذا الجسد الهزيل الزائل في عالم فانٍ وضعيف، لكننا- بسبب إيماننا به- فقد انتقلنا روحياً إلى نطاق روحي سمائي نحيا فيه جزئياً الآن وسيأتي يوم نختبره بكل ملئه.
وفي نفس الانجيل: يوحنا ، علّم الرب يسوع أيضاً أننا لسنا فقط ليس من العالم، ولكننا حتى لو اختبرنا نفس الاختبارات والضيقات التي ستأتي على العالم، فرغبة قلبه أن نُحفظ من الشرير ( يوحنا 17: 15) لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ الْعَالَمِ بَلْ أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ الشِّرِّيرِ . فمهما كانت الضيقات،"فإنه سيحفظنا من الشرير“.
فكما قلت مسبقاً، مما لا شكّ فيه أن للكورونا سلبيات عديدة تركت أثرها على الناس وعلى الكنيسة، لكن، في نفس الوقت، فإن لها أيضاً إيجابيات وقد رأيناها تتحقّق ليس فقط في بلدنا ، بل في بلدان أخرى من العالم
أولاً، لقد لاحظت أنّه قد أصبح هناك تقارب أكبر بين العديد من الكنائس ورعاتها؛ فأمام الضيقة والوباء أدركنا أن الوحدة مهمّة، وأنها سلاح مبارك نستطيع أن نقاوم فيه في يوم الشرّ والضيق. فعندما يأتي الضيق على العالم والكنيسة، يجب على المؤمنين أن يتوحّدوا معاً؛ يتوحّدوا بالصلاة والمحبة والسؤال عن بعضهم البعض والتقرّب أكثر فأكثر لبعضهم البعض. فالضيق يساعدنا أن نفهم أنه مهما كانت اختلافاتنا أو خلافاتنا فهناك ما هو أهمّ، وهو أن نعكس نور المسيح في وسط الظلمة والضيق.
فإن الصلاة الرئيسة التي أعطانا إياها الرب حتى يعرف الناس أننا تلاميذه هي أن تتحقق بيننا الوحدة والمحبة. (يوحنا 13: 35) بِهذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضًا لِبَعْضٍ. فصلاتي أنّ هذه الوحدة - التي أصبحت أفضل من السابق من خلال الصلوات المشتركة والمبادرات اللقائية عبر الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي- تزداد وتشدّ وثاقها بعد الكورونا وتصبح طاقة مغيّرة في حياة الكنيسة انطلاقاً للعالم الذي يحتاج يسوع.
ثانيا، الكنيسة اكتشفت أخيراً أن: الكنيسة ليست فقط البناء الذي نجتمع فيه، هي ليست تلك الجدران الأربع التي احيانا حدّت من استخدام الرب لنا و حدّت من تفكيرنا و آفاقنا وحتى لاهوتنا. الكنيسة يا إخوتي هي الناس الذين يسكن بهم الروح القدس، هؤلاء هم الكنيسة المبنية من حجارة حية وليس حجارة ميتة.
فبناء الكنيسة مجرّد بناء نجتمع به حتى نتشجّع ونكون بشركة نصلّي معاً، نسمع كلمة الرب فيه، لكن اجتماعنا داخل بناء الكنيسة هدفه أن نخرج للخارج لنحيا ككنيسة المسيح، وأن نشهد عنه بالأعمال قبل الكلام ونظهر محبته لكل إنسان مهما كانت خلفيته. وكل ذلك بجانب تحوّل كل بيت إلى كنيسة مصغّرة من خلال التكريس العائلي وتقرّب العائلة معاً لنجتمع حول الرب ومحبته.
وثالثاً وأخيراً، فإنني أرى من إيجابيات الكورونا أنّ الكثير من البشر في كل أصقاع الأرض بدأوا باللجوء والاقتراب للرب والتعرّف عليه؛ فالكثير منهم حتى وإن كانوا يعرفوه أو قد سمعوا عنه ولكنّهم لم يختبروه في حياتهم. وهذا الأمر كفيل بأن يشجّع الكنيسة على النهوض والصحوة وإدراك أن كل أولئك البشر بحاجة لمساندة ليقتربوا أكثر للرب. سؤالهم مازال يدوي مثل سؤال الخصي الحبشي للشماس فليبيس " كيف يمكنني إن لم يرشدني أحد" ( أعمال 8: 31) ، ومنهم من يصرخ كما صرخ الرجل المكدوني في رؤية لبولس الرسول " أعبر إلى مكدونيا وأعنّا " ( أعمال الرسل 16: 9). وَظَهَرَتْ لِبُولُسَ رُؤْيَا فِي اللَّيْلِ: رَجُلٌ مَكِدُونِيٌّ قَائِمٌ يَطْلُبُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ: «اعْبُرْ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ وَأَعِنَّا». إنه الأمر الإيجابي الأسمى في وقت الكورونا: رجوع وتوبة الكثيرين إلى الرب يسوع. فلنساعدهم ولنتلمذهم وننير إيمانهم. فيبقوا مؤمنين حتى إلى ما بعد الكورونا.