إن للسُبل إلى النهضة الروحية تستدعي اهتماماً لأربع شموليات. في الجزء الأول قدمت اثنتين وهما: النظرة الشمولية للنهضة الروحية، والنظرة الشمولية للخطية. في هذا المقال، أقدم الفكرة الثالثة والرابعة من الشموليات الأربع.
ثالثاً، النظرة الشمولية لملكوت الله. يفصل البعض ما بين ملكوت الله والواقع الأرضي، فاقتصر فهمهم للملكوت على أنه شأن سماوي وروحي بحت. إن مفهوم ملكوت الله أخذ طابعاً شمولياً في العهد القديم، كتابات اليهود في فترة الهيكل الثاني، وكذلك العهد الجديد. إن الملكوت هو تطبيقاً لحكم الله على الأرض، كما في السماء. إن إعلان يسوع المسيح عن بداية خدمة الملكوت كان من أشعياء النبي 61: "«رُوحُ «رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ، وَأَكْرِزَ بِسَنَةِ الرَّبِّ الْمَقْبُولَةِ». (لو 4: 18-19) إن خدمة الملكوت هي الاهتمام بالإنسان وظروفه الحياتية. أليست سنة اليوبيل المقبولة للرب هي التي فيها يطلب الله فيها ترسيخ العدالة نحو الأرض والإنسان!
لم يفصل يسوع بين الروحانيات والعدالة الاجتماعية، بل على العكس تماماً. لقد جعل يسوع الروحانية الناضجة مرادفاً للعمل الاجتماعي وإحقاق العدالة. إنهما معاً صورة عن ملكوت الله. إن قرأنا رسالة ملكوت الله في إطارها الجيوسياسي والتاريخي سوف نلاحظ بأنه يسوع يقدم بديلاً أفضل لملكوت الإمبراطورية الرومانية القديمة القائم على الظلم، والطبقية، والاحتلال. إن امتداد الملكوت هو جوهر إرسالية الكنيسة، وورثة الملكوت هم المؤتمنون والقائمون على ممارسة أعمال الرحمة والعدل. يقول السيد عن ذلك في متى 25: 31-46 "وَمَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ. وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ الشُّعُوبِ، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُمَيِّزُ الرَّاعِي الْخِرَافَ مِنَ الْجِدَاءِ، فَيُقِيمُ الْخِرَافَ عَنْ يَمِينِهِ وَالْجِدَاءَ عَنِ الْيَسَارِ. ثُمَّ يَقُولُ الْمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ. لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيبًا فَآوَيْتُمُونِي. عُرْيَانًا فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضًا فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوسًا فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ…" لاحظ/ي كلمات يسوع بأن المدعوين بدخول الملكوت هم الورثة الأمناء الذين مارسوا أخلاقيات الملكوت.
قد يكون مفاجأً للبعض عندما أقول إن سبب النهضة الروحية التي حدثت في الكنيسة الأولى هو اهتمامهم بالقضايا الاجتماعية والواقع الحياتي للإنسان. في دراسة أعدها عالم اجتماعي رودني ستارك، بحث سبب انتشرت المسيحية رغم أنها لم تكن في موقع ميزات [1] على خلاف ما توقع، وجد أن اهتمام الرسل بالفقراء والأيتام والأرامل كان سبباً رئيسياً في نهضة الكنيسة الأولى. سفر أعمال الرسل يؤكد أن الرسل الأوائل قد أهتموا بالفقراء والأرامل. إذن، النهضة الروحية تتطلب عمل اجتماعي وتثبت العدل.
إن تركيز وتقوقع الكنيسة في دائرة الخلاص الفردي الروحي، أدى بها لإهمال رسالة الملكوت الشاملة. إن إظهار العبادة الصالحة والعمل على ترسيخ ملكوت الله يتطلبان العدالة في التعامل مع الإنسان، يعلمنا الكتاب المقدس في سفر النبي ميخا "قَدْ أَخْبَرَكَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا هُوَ صَالِحٌ، وَمَاذَا يَطْلُبُهُ مِنْكَ الرَّبُّ، إِلاَّ أَنْ تَصْنَعَ الْحَقَّ وَتُحِبَّ الرَّحْمَةَ، وَتَسْلُكَ مُتَوَاضِعًا مَعَ إِلهِكَ." (مي 6: 8). لا أعتقد أن ترتيب النبي لمتطلبات الله من الإنسان ليس عشوائياً بأي شكل. فإن صنع الحق والرحمة هم أسس للعبادة المتواضعة. فكيف لنا أن نعبد الله بالحق دون الاهتمام بالظلم الواقع على الإنسان؟
رابعاً، وهو عامل قد يخالفني البعض الرأي فيه وهو النظرة الشمولية للإنسان وأقصد هنا العامل السيكولوجي الروحي. في الأونة الأخيرة هنالك اهتمام غير مسبوق في ربط علم النفس بالحياة الروحية والنمو الروحي. فاكتشف القادة الروحيين بأن العامل النفسي والعاطفي لهم دور كبير وأساسي في نمو الإنسان الروحي. نقرأ مثلا عن بيتي سكازيرو الذي يكتب مطولاً عن الموضوع بالإنجليزية وأوسم وصفي ترجمه للغة العربية، وأيضاً خدام أخرين أتبعوا نفس النهج في خدماتهم [2] قد تمعنت بهذه الفكرة مطولاً وفي راودني صورة أود مشاركتها معكم، ولأعطي مثالاً على ذلك، تصور أب يقول لأبنه أنت فاشل، أنت فاشل. ماذا نتوقع من الأبن؟ على الأغلب أن يكون فاشلاً. فإن قلنا لهذا الصبي أو الصبية بأنكم لستم فشلة، فذلك يحتاج لوقت طويل حتى يؤمن بتلك الفكرة. في الحياة العاطفية والروحية على سبيل المثال أيضاً، نرى تركيزاً على موضوع جروح الأب والأم، فكيف للإنسان أن يصدق بأن الله "أبوه السماوي" يحبه طالما هو لا يشعر بمحبة أبوه الأرضي! ما نراه هنا يطبق على الواقع الفلسطيني، فالإنسان الفلسطيني الذي يعيش في الأسر ومحاط بسجن من الأسوار العالية يعيش نكسة روحية بسبب ذلك. كيف يمكن للإنسان الفلسطيني أن يصدق بأن المسيح حرره وهو قابع في ظلمه السجن والاحتلال؟ كيف له يؤمن وأن يثق بكلمات يسوع بأنه "َإِنْ حَرَّرَكُمْ الابْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَارًا." (يوحنا 8: 36) إن الظلم الواقع على الإنسان الفلسطيني هو خطية بحاجة للعمل لإزاحتها بالصلاة، والصوم، والعمل لأحقاق الحق حتى يصدق بأن الله قد حرره.
في النهاية، النهضة الحقيقة، تتطلب توبة حقيقية. توبة ليس فقط عن خطية فردية، إنما خطية اجتماعية، اقتصادية، وسياسية. لا تحدث نهضة بلا توبة، والتوبة تتطلب عملاً للعودة عن الخطية والظلم الواقع ضد الإنسان. التوبة تتطلب مواجهة وإصلاح ما هو خطأ. لا يمكننا الاكتفاء بالصوت النبوي، بل يجب أن نأخذ العمل النبوي على محمل الجد. إن رسالة الإنجيل هي الأخبار السارة. أخبار شاملة لكل مجالات حياة الإنسان. إنها الدعوة إلى حياة أفضل، تلك الحياة الأفضل التي يعد بها يسوع، فكيف للفلسطيني أن يختبر النهضة والحياة الأفضل بينما يعيش واقع أليم؟
1) Rodney Stark, The Rise of Christianity (HarperCollins: San Francisco, 1997).
2) Peter Scazzero, Emotionally Healthy Spirituality (Nashville, TN: Thomas Nelson, 2011).