خلال فترة انتشار فيروس الكورونا، قامت في بعض البلدان العربية حملة "كورونا مش جريمة" للتعبير عن الاستياء من اعتبار الإصابة بالفيروس وصمة عار أو جريمة تستدعي معاقبة المصابين. إذ تم تداول أسماء بعض المصابين أو المشتبه في إصابتهم بفيروس الكورونا عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتنمّر وانتهاك الخصوصية والإساءة، حتى وصل الأمر إلى بعض الاعتداءات على المصابين وأفراد عائلاتهم. وقد دفعت هذه الظواهر بعض المصابين إلى إخفاء مرضهم، والهروب من إجراء التحاليل والإحجام عن الحجر الصحي خشية نبذهم اجتماعيًا. وأصبحت وصمة العار الاجتماعية من الكورونا "فيروس" آخر يعاني منه مجتمعنا ليذكرنا بأن "العار" أو "العيب" هو وباء فتّاك صامت! وكلما أبقيناه سرًّا، تأصل فينا أكثر، وقيّد قدرتنا على التغيير في مجتمعنا.
ما هو العار؟ ولماذا يعتبر المرض وصمة عار؟ ما الفرق بين العار والذنب؟ ما هي علاقة العار بالنماذج والقيم الاجتماعية؟ وهل يستطيع المرء أن يفلت من العار إذا لحقه؟
في هذه المقالة سأتطرق لموضوع العار من منظور علم الإنسان وليس من منظور علم النفس.
ما هو العار؟
يُعرّف العار بأنه العَيب أو كلُّ ما يُعيَّر به الإنسان من فعلٍ أو قول أو حالة ما تدعو إلى الخجل أو الخزي. بكلمات أخرى: العار هو غياب الشرف. إنها العين الاجتماعية التي تجعل المرء يشعر بالخزي والخجل، وليس أي شعور داخلي بارتكاب خطأ. كثيرا ما نستخدم الكلمتين "العار" و"الذنب" بالتبادل كأنّهما كلمتان مترادفتان، إلا أنهما في الواقع تشيران إلى تجارب مختلفة. أحيانًا، يسير الذنب والعار جنبًا إلى جنب؛ فقد يؤدي نفس الفعل إلى الشعور بالعار والشعور بالذنب، حيث يعكس العار شعورًا سلبيًّا حيال أنفسنا، والذنب ينطوي على إدراكنا بأن أفعالنا أساءت للآخرين. ومن الممكن أن يشعر المرء بالذنب أولاً، ومن ثم يتطور هذا الشعور إلى شعور بالعار إذا حكم على ذاته من منظور الآخرين. أو يشعر بالعار أولاً، ومن ثَمّ يمكن أن يشعر بالذنب لأنه تسبب بالعار لنفسه وللآخرين.
في السنوات الأخيرة ظهرت دراسات تشير إلى أن الذنب والعار هي أبعاد عالمية لجميع الثقافات، حتى لو اختلفت من ثقافة إلى أخرى ومن عصر لآخر. ورغم كونها عالمية ومتشابهة في جوانب معينة، إلا أنها تتمتع بخصائص فريدة موجودة في الثقافات المحدّدة. ففي الثقافات التي تعطي أولوية للعائلة والمجتمع على الأفراد، من المرجح أن يكون الشرف والعار هو احدى القواعد التوجيهية لأفرادها.
لماذا يعتبر المرض وصمة عار؟
يعتبر المرض، من منظور علم الاجتماع الطبي، بأنه حالة اجتماعية "منحرفة" بناءً على معايير اجتماعية مرتبطة بردّة فعل الآخرين اتجاهها. ولهذا فأنّ سبب الانحراف ليس بالشخص المريض بل مرتبط بنظرة الآخرين. وتدل دراسات علم الإنسان أن المرض بأسبابه ومدلولاته الثقافية غامض ومجهول ويختلف باختلاف المجتمعات والعصور. وتشير الدراسات أن هناك علاقة وثيقة بين الدين والمرض. وفي العديد من المجتمعات التقليدية والسياقات الدينية يرتبط المرض بالخطيئة ويعتبر "عقوبة إلهية"، مما ساهم في بناء تصوّرات عن المجتمعات وقيمها، حيث أصبح الأمر الاجتماعي يتماثل مع الأمر الأخلاقي بما فيه صحة الإنسان الذي يعتمد على نموذجي الطهارة والفضيلة. وللأسف، يأتي العار من استيعاب هذا الاعتقاد الثقافي، ببعض المجتمعات، بأن المرض سببه السلوك السيء، أو التنشئة الاجتماعية السيئة أو ضعف الضبط الاجتماعي. فمثلاً الأمراض النفسية والعقلية غالبًا ما تعتبر وصمة عار؛ لذا يكون إخفاء المرض وتحمّل معاناته أسهل من الشعور بالعار الذي يرافق المريض في الذهاب إلى طبيب نفسي للعلاج. الأمراض المعدية أيضًا لديها صبغة خاصة تفترض أنها "تُلوّث" الآخرين (طبعًا بالاضافة إلى الخوف من العدوى)، ولربما هذا يفسر ردّة الفعل المتطرفة في تعامل البعض مع مرضى الكورونا. ناهيك عن أنّ الأمراض المستعصية غالبًا لا نذكر اسمها ونعبّر عنها أنها "من ذاك المرض". وبطبيعة الحال الأمراض المرتبطة بالجنس مثل الإيدز هي أيضًا أمراض معيبة، كلّها تُضاف إلى قائمة طويلة من تلك النظرة السلبية للمرض.
ما الفرق بين العار والذنب؟
لشرح العار، لا بد أن نتطرق الى الفرق بين العار والذنب. ويتّفق الباحثون على أن هناك اختلافين أساسيّين بين العار والذنب من حيث الروح الثقافية العامة ونمطيّة سلوك الأفراد (الحديث هنا عن ميل ثقافي عام، وليس عن صفات تميز كل الاشخاص الذين ينتمون للمجتمع نفسه):
1) الاختلاف الأول ينبع من أن الشعور بالذنب مرتبط بارتكاب خطأ من قبل الشخص نفسه. ويحدَد الخطأ بناءً على القيم التي تسود المجتمع، والمتوارثة عن طريق التربية. أما الشعور بالعار فليس بالضرورة مرتبطًا بارتكاب المرء خطأ ما، فمن الممكن للمرء أن يشعر بالعار لأخطاء ارتكبها شخص آخر من دائرة حياته (الضيّقة أو الواسعة). أو التواجد في حالة او ظرف ليس خاطئًا بحد ذاته، لكنه يعتبر معيبًا بنظر المجتمع.
2) الاختلاف الثاني هو أن الشعور بالذنب يكون موجّهًا نحو الفعل الخاطئ (تقييم سلبي للفعل)، بينما الشعور بالعار يكون موجهًا نحو الذات التي ارتكبت الفعل الخاطئ (تقييم سلبي للذات). الشخص في حالة الذنب يقول: "أنا قمت بعمل سيّئ"، بينما المرء في حالة العار يقول: "أنا شخص سيئ ". عندما يكون النقد موجّهًا إلى الفعل، يستطيع المرء أن يتعلم من أخطائه ويحسّن سلوكه. أما إذا كان النقد موجّهًا إلى صميم الذات فيشعر المرء بالعجز عن فعل الصواب، لأنّه يشك في مقدرته على الإصلاح والتغيير.
في حالة الذنب، إذا ارتكب شخص خطأ ما، يكون بمقدوره الاعتراف بالذنب والندم عليه، وطلب المغفرة ووعد المجتمع بتغيير سلوكه. وإذا كان بريئًا، فبإمكانه إثبات براءته للآخرين لأنه يثق بنفسه وبقدرته على الإصلاح وتغيير نظرة المجتمع عنه. أمّا في حالة العار، إذا ارتكب شخص خطأ ما، فأنه مذنب ويشعر بالعار لأن المجتمع يعرف بذنبه، ويندم لأنه جلب العار لنفسه وللآخرين. أمّا في حالة أنه لم يرتكب خطأ، فإن مجرد اعتقاد الآخرين بأنه أخطأ سيُلحق العار به وبعائلته، ولن تفيد قناعته ببراءته. وإذا حاول أثبات براءته للآخرين وصدقوه، أو حتى لو وصلت القضية إلى المحكمة وحكمت ببراءته، فإن ذلك لن ينجح في إزالة وصمة العار التي ألصقت به. حُكم المجتمع على الذات هو الذي يقرر مصير الفرد، مذنبًا كان أم غير مذنب، وبهذا يضعف من مقدرته على إصلاح ذاته ويحرمه من إمكانية التغيير.
ما هي علاقة العار بالنماذج والقيم الاجتماعية؟
إن الشعور بالعار ينتج من تقييم الذات بعيون الآخرين، ومحاسبتها على ابتعادها عن القيم والنماذج التي صاغها المجتمع خلال السنين وزرعها في أفراده، مثل الطهارة والشرف. كل ثقافة تمتلك مجموعة من القيم المتعدّدة، وربما البعض منها متناقضة. فمثلاً، إن بعض النماذج الاجتماعية التي يفرضها مجتمعنا على أفراده، لا تتطابق مع منظومة الأخلاق التي تزرعها في عمق ذوات أفرادها، مما يضع الأفراد في مواقف وجودية متناقضة يصعُب التغلب عليها، وأحيانا لا مخرج منها فمثلاً:
1) في مجتمعاتنا العربية منظومة الأخلاق تقول: "لا تقتل"، بينما نموذج الشرف يحرّض الرجل أن يقتل "ليستعيد شرفه"! فإذا قتل الرجل أخته لأنها "اتُهمت في شرفها" او انتقم لمقتل أخيه فإن المجتمع "يمتدحه"، بالرغم من أن وصمة العار التي ألصقت به غالبًا لن تختفي.
2) منظومة الأخلاق تحثّنا على التضامن والتآزر وإشاعة الطمأنينة النفسية لمرضى الكورونا في معاناتهم، بينما نموذج الطهارة الذي يربط المرض بالسلوك الخاطئ يدعو لنبذهم اجتماعيًا، ولربما هذا يفسر نهج التنمّر عبر وسائل التواصل الاجتماعي والاعتداء على خصوصيات المصابين.
إن وصمة العار غالبًا ما تفقد الافراد السيطرة على واقعهم! تمامًا مثل الفتاه الشابة التي تتصرف بشكل لا تشوبه شائبة، ولكن إذا بدأ شخص ما بإشاعة عنها فلا يمكن بعد الآن السيطرة ومنع المأساة الآتية لا محالة! فتتعارض قيم الشرف والطهارة مع قيم أرقى وأسمى مثل الرحمة والمحبة والإنصاف.
إن محاسبة الذات في حالة العار تعني أنه كثيرًا ما تكون حرية إرادة الفرد ضعيفة أمام الإرادة الجمعية؛ حيث أن النماذج الاجتماعيّة السائدة تشكّل الذات وتحاسبها، ثم تصنّفها وتحدّد مصيرها، وبذلك تُفقدها السيطرة على واقعها وتشل قدرتها على التغيير.
هل بإمكان المرء التخلص من العار إذا لحق به؟
للإجابة على هذا السؤال علينا أن نتذكر أن الذنب نقيض البراءة، بينما العار نقيض الشرف. يستطيع الفرد التحرر من حالة الذنب والوصول إلى حالة البراءة؛ إما من خلال إثبات براءته إذا كان الاتهام خاطئًا، أو الاعتراف بالذنب وإصلاح سلوكه، إذا كان الاتهام صحيحًا. في حالة العار، يكون التحرّر منه للوصول لحالة الشرف صعبًا للغاية. لأنّه إذا اتُّهم شخص ما بارتكاب فعل خاطئ يؤدي إلى العار او كان في ظرف معيب، فإن إثبات براءته لن يعينه للتحرر من حالة العار، لأن العار قد لبسه بمجرد اتهامه. وإثبات براءته لن يمحو وصمة العار التي ألصقت به، ولن يُعيد إليه شرفه كما كان من قبل. أما إذا كان الاتهام صحيحًا، فغالبًا لن يُعطَى فرصة لطلب المسامحة ومحاولة إصلاح ذاته. فيصل الفرد إلى طريق مسدود وهو مغلوب على أمره ومستسلم لعجزه في التغيير، ليصبح العجز واقعًا يتقبَّله ويتأقلم معه، ولربما يتنازل عن حقه في تقرير مصيره وصنع تاريخه بنفسه.
إن الطريق من حالة العار إلى حالة الشرف مغلقة بحواجز يصعب عبورها! مما يقود الفرد للبحث عن طرق أخرى لمحاولة الوصول إلى وضعية الشرف، مثلاً: (1) الهجوم: إعدام سبب العار، كما يحدث في حالات الثأر والقتل على خلفية الشرف. (2) الإنكار: تجاهل أنه هنالك مشكلة عار. (3) الهروب: تفادي الحديث عن موضوع العار وعدم مواجهته، بل الانطواء والانشغال بأمور أخرى في محاولة للتخفيف من ألم المعاناة ومحاولة الخروج من حالة العار. (4) اللوم: توجيه النقد واللوم للآخرين.
جدير بالذكر أن هذه الوسائل لا تنجح غالبًا في إخفاء العار والتحول من وضعية العار إلى حالة الشرف. كما أنها لا تجلب أي تغيير جذري لحل المشكلة، بل تزيدها تأزّمًا.
بالإضافة إلى ألم معاناتهم من المرض وعزلهم التام للعلاج، أوقعت وصمة عار الكورونا بعض المصابين في مأزق صعب من جهة التعامل مع المرض، مما قادهم للتعامل مع "عيبهم" بطرق غير صحيحة وغير صحيّة اتجاه المجتمع؛ من خلال إخفاء مرضهم، واتجاه أنفسهم من خلال الإنكار والانطواء والإحباط.
فكيف إذًا نتعامل مع العار؟
عالجت موضوع التعامل مع العار في مقالتي العار والفداء: التعامل مع العار من منظور مسيحي.
المقالة مبنية على تفاعلي مع المصادر التالية:
- بركات، حليم. (2000). المجتمع العربي في القرن العشرين: بحث في تغيّر الأحوال والعلاقات. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
- كـنـاعـنة، مصـلح. (2016). "العار والذنب والفشل العربي في التغلب على العجز". إضافات : المجلة العربية لعلم الاجتماع. ع. 33-34 (آذار)، ص ص. 86-104.
- François Sauvagnat. "Notes on the Evolution of the Relationship between Guilt and Shame in Psychoanalysis and Anthropology" Rev. Latinoam. Psicopat. Fund., São Paulo, 2 (4), pp 779-797, dez. 2018
- ساري، سالم. (1996). "البناء الاجتماعي للحقيقة الطبية: جدلية الطبي والاجتماعي". مجلة البلقاء، 4 (2)، ص ص 125-160.
- مجدول، بوشعيب. (2018). "التديّن والمرض : دراسة في تأثير المرجعيّة الدينية في تمثّلات المرضى والمصابين بالإيدز وتجربتهم"، انسانيات: مجلة في الانتروبولوجيا والعلوم الاجتماعية. 80-81 ص ص 17-40.
د. رلى خوري منصور هي مديرة دراسات السلام في كلية الناصرة الإنجيلية