مقدمة
لمّا توفّي الرّسول يوحنّا الحبيب في أواخر القرن الأوّل، كانت الكنيسة قد تخطّت حدود أورشليم ووصلت إلى الأقاليم الشّرقيّة من الإمبراطوريّة الرومانيّة، مثل سوريّا وآسيا الصّغرى، وسواحل مكدونية وبلاد اليونان. ثمّ دخلت روما قلب المملكة الرومانيّة وعاصمتها. وبهذا كانت المسيحيّة قد انتشرت في أهمّ المدن الشّرقيّة والسّاحليّة، أمّا في الغرب فوصلت فقط الى مدينة روما.
اتّسعت تخوم الكنيسة في القرن الثّاني ووصلت لقرطاجة (تونس حاليّاً) ومناطق في فرنسا، وامتدّت إلى منطقة ما بين النّهرين، وازداد عدد المسيحيّين في المدن الكبرى، ومع هذا فإنّ المسيحيّين لم يشكّلوا إلّا أقليّة ضئيلة مقابل أغلبيّة ساحقة من الوثنيّين.
أمّا في القرن الثّالث فنمت الكنيسة نموّاً كبيراً، وأصبح المسيحيّون في بعض المناطق أغلبيّة السّكان أو بلغوا عدداً لا يُستهان به. كما وامتدّت إلى أقاليم أخرى في الدّولة الرومانيّة، فانتشرت في مناطق الغرب الرومانيّ حتى وصلت إلى جنوب إنكلترا ونهر الراين، وتوسّعت في الشّرق توسّعاً عظيماً، فتخطّت حدود الدّولة الرومانيّة، فدخلت ارمينيا وبلاد فارس. ولتستطيع الكنيسة السّير قدماً ورعاية أعضائها وتعليمهم والاستمرار بنشر رسالة الإنجيل، ازدادت قناعتها بوجوب النّظام والتّرتيب الدّاخليّ خاصة على الأصعدة الآتية:
نظام الكنيسة الدّاخلي
عندما تأسّست الكنيسة في القدس التفّ المؤمنون حول الرّسل، واهتمّ الرّسل بإدارة شؤون الكنيسة، لكن لما كثر المؤمنون وكبرت حاجتهم لخدمات متنوّعة اختار الرّسل سبعة أشخاص ليساعدوهم في تأدية الأمور. لكن الاضطهاد الذي حلّ بالكنيسة أخرجها إلى خارج أورشليم فانتشرت المسيحيّة في أماكن أخرى وتأسّست كنائس عديدة. فقام الرّسل بتعيّين أساقفة يديروا هذه الكنائس ويرعوا شؤونها. ومع نهاية القرن الأوّل أصبح لكلّ مدينة أسقف واحد يهتمّ بأمورها الرّوحيّة، يخدم معه مجموعة من الشّيوخ والشّمامسة.
وقد تنظّمت مكانة الأسقف ليصبح مع الوقت صاحب أعلى مكانة وله السّيادة على الشّيوخ الآخرين الذين يعملون معه. وقد ساهم في تعزيز مكانة الأسقف هذه، الاضطهادات والهرطقات والنّمو المتزايد للكنيسة، بحيث صار هناك حاجة لقيادة واضحة لمواجهة هذه الأمور. وقد قويت مكانة الأسقف إلى درجة صار يمنع فيها ممارسة بعض الفرائض إلّا بحضوره. كما ودعا الآباء خلال كل هذه الفترة إلى الالتفاف حول الأسقف كتعبير أساسيّ عن وحدة الكنيسة.
ساعد الأسقف في خدمته عدد من الشّيوخ كان الأسقف رئيسهم أو الأوّل بينهم. وساعد الشّيوخ الأسقف في خدمة العبادة وإقامة الفرائض. ازدادت أهمّية الشّيوخ عندما امتدّت الكنيسة إلى القرى والأرياف، فكان الشّيوخ يخدمون هذه الكنائس. كما وكان الشّمامسة يساعدون في الوعظ والإرشاد والإدارة الماديّة. وبالتّدريج أصبح الأسقف المدير الفعليّ والمشرف على عدد من الكنائس. وما أن أنتهى القرن الثّاني حتى صار الأسقف هو الرئيس الفعليّ الذي لا ينافسه أحد، في كنيسة واحدة أو عدّة كنائس.
الكتاب المقدّس
يُخطئ معظم النّاس باعتقادهم أنّ الأسفار القانونيّة أُقرّت بواسطة المجامع العامّة للكنيسة، فالأمر لم يكن هكذا. فالمجامع الكنسيّة التي بحثت قانونيّة أسفار العهد الجديد، كانت تقوم بمجرد الإعلان العلنيّ لما سبق وثبتّته الكنيسة بخصوص الأسفار القانونيّة. وقد تتطوّر موضوع قانونيّة الأسفار بصورة بطيئة تمّ معظمها مع حلول سنة 175 م، ما عدا بعض الأسفار التي ثار الجدل حول نسبتها إلى كتابها.
لكن مع الوقت شعر قادة الكنيسة بالحاجة إلى تحديد أسفار العهد الجديد القانونيّة، خاصّةً مع نشوء بعض التّساؤلات حول بعض الكتب مثل: رسالة أكليمندس إلى كورنثوس، راعي هرمس، وغيرها. كما ويجب ألّا ننسى أن الاضطهادات شكّلت أيضاً عاملاً مساعداً مهمّاً في هذا الخصوص، حيث كان المؤمنون يعرّضون أنفسهم للخطر بسبب احتفاظهم بالكتب المقدّسة، فتسائل الناس: "أيّاً من الكتب تستحق الموت من أجلها؟" فتحديد هذه الأسفار كان مهمّاً جداً لوضع الأساس للحياة المسيحيّة.
قانون الإيمان
أدركت الكنيسة أيضاً حاجتها لوضع قانون إيمان يساعد النّاس في فهم أساسيّات الأيمان المسيحيّ بصورة منظّمة ومرتّبة وسهلة الحفظ. وقد ظهرت قوانين الإيمان العامّة من خلال المجامع الكنسيّة في الفترة التي شهدت الجدل اللاهوتيّ في القرن الرابع والخامس. أمّا أقدم شكل من قوانين الإيمان فهو قانون الإيمان الرسوليّ الذي كان يُتلى بشكل أسئلة وقت المعموديّة. وهو على هذا الشكل:
- هل تؤمن بالله الآب القادر على كل شيء؟
- هل تؤمن بيسوع المسيح ابن الله الذي ولد من الرّوح القدس من مريم العذراء، والذي صلب في عهد بيلاطس البنطيّ، ومات وقام حيّاً في اليوم الثّالث وصعد إلى السّماء وجلس عن يمين الآب وسيأتي ليدين الأحياء؟
- هل تؤمن بالرّوح القدس والكنيسة المقدّسة وقيامة الجسد؟
ويعتبر قانون الإيمان هذا أقدم تلخيص وصل إلينا للعقائد الأساسيّة التي تضمّنتها كلمة الله. وعلينا أن نتذكّر أنّ من كان يقرّ به، كان يضع نفسه أمام تحدّي الموت، فقبوله للمعموديّة على هذا الأساس كان ينضمّ المؤمن الجديد لمجموعة خارجة رسميّاً عن قانون الدّولة.
عبرة من الماضي
بالطّبع نحن لسنا مطالبين بتبنّي الماضي بجملته، فهناك أخطاء عديدة وقعت بها الكنيسة في الماضي، وهناك أخطاء سنقع فيها أيضاً. لكن علينا أن ندرك أنّ هذه الحقائق التاريخيّة مهمّة لكنيسة المستقبل، فنحن جزء من كنيسة المسيح عبر العصور. وهناك دروس قيّمة علينا أن نتعلّمها من هذا التّاريخ. فالحماس والغيرة لحمل بشارة الإنجيل، يجب أن يستمرّ سَرَيانه في عروق الكنيسة. والمواقف البطوليّة للمؤمنين يجب ألّا تكون قصصاً جميلة نردّدها بل واقع نعيشه كذلك. فإن كنّا نسعى لهذا، علينا أن نتذكّر أنّ نمو الكنيسة وامتدادها بحاجة أيضاً لوضعه بإطار تنظيميّ كتابيّ، يساعد الخدّام في خدمتهم، ويفتح الباب للعلمانيّين للخدمة داخل الكنيسة، ويُعدّ جميع المؤمنين للتواصل مع المجتمع الأوسع، بفهم واضح لهويّتهم الإيمانيّة والعقائديّة والإرساليّة، وبقناعة مترسّخة أنّ رسالة الإنجيل التي يحملوها ذات صلة بتحدّياتنا العصريّة، وأن رسالة الإنجيل هي أعظم رسالة يمكن أن نقدّمها لعالمنا هذا.