نسمعُ اسمَ مريم المجدليّة كثيرًا في الدوائر الكنسيّة، فغالبًا ما تظهَرُ عندما تُتلى احداث القيامة، او يذكر احدهم مجموعة "المريمات" اللواتي رافقنَ يسوع خلال خدمته. وقد اثارت هذه الشخصيّة مخيّلات الفنّانين عبر العصور(1)، فرسموا لقاءها مع المسيح المُقام في البستان، وصوّروها جالسًا تائبةً تتأمّل حياتها قبل المسيح (لوحات تسمّى "المجدليّة التائبة" Penitent Magdalene). الّف الكثيرون عنها الرّوايات وظهرت كشخصية رئيسية في العديد من الأفلام.
لكن في الواقع، لا يُخبرنا الكتاب المقدّس الكثير عنها. فَمع انّها تُذكر 13 مرّة في الأناجيل (اكثر امرأة تُذكر في الأناجيل بعد مريم العذراء ام يسوع)، لا نعلم الكثير عن ماضيها او خلفيّتها. في هذا المقال، سألخّص ما نَعلَمه عن مريم المجدليّة من الأناجيل (القانونية)، واتأمل في رحلة ايمانها لأستخلص دروسًا بإمكاننا تعلُّمها مِنها اليوم.
من هي مريم المجدليّة؟
يُرجِّح المفسّرون انّه اطلِق على مريم لَقَب المَجدَلِيَّة لأنها بالأصل مِن قرية مَجدل بالقُرب مِن بُحيرة طبريّا (2). يُخبرنا لوقا في انجيله انّه قد اُخرِجَ منها سبعة شياطين (من السّياق يمكننا ان نفترض انّ يسوع قام بذلك) وانّها قد قامت، مع نساء اخريات قد شفينَ من ارواح شرّيرة وامراض، بمرافقة يسوع خلال خدمته ودعم الخِدمة مِن اموالِهنّ (لوقا 8 : 1-3). أمّا في باقي الأناجيل، فتُذكر مريم المجدليّة في سياق احداث آخر ايّام من حياة يسوع على الأرض، فنراها عند الصليب (متى 27 : 56، مرقس 15 : 40، يوحنا 19 : 25)، الدّفن (متى 27 : 61، مرقس 15 : 47) والقيامة (متى 28 : 1، مرقس 16 : 1، 9، لوقا 24 :10، يوحنا 20 : 1، 11-18).
امّا في الكتابات خارج الأناجيل القانونيّة، فتكثُرُ القِصَص عن مريم المجدليّة. لن اعرض هذه التدوينات إذ انّ ذلك ليس هدفي هنا، ولكنّ المشترك في جميع هذه الكتابات هو امر يتوافق مع شخص يسوع المسيح، وذلك انّه احترم مريم المجدليّة، حاورها بجديّة غير مُستخفٍّ بذهنها (بخلاف المُتَّبَع في الثقافة المحيطة وقتها)، وكانت من الاشخاص المُقرّبين له.
اخطاء شائعة عن هويّتها
تمّ، عبر العصور، ربط شخصية مريم المجدلية مع المرأة التي اُمسِكَت في الزّنا (يوحنا 8 :1-11)، بالأخصّ بعد صدور فيلم "آلام المسيح" (The Passion of Christ) الذي صوّرها كَزانية سابِقة. أمّا آخرون فيعتقدون انّها المرأة الخاطئة التي دهنت اقدام يسوع بالطّيب (لوقا 7 : 37-38)، وهي نفسها مريم اخت مرثا والعازر. غالِبًا ما ينبع هذا الفِكر من عظة قدّمها البابا غريغوري الأوّل عام 591 حيث قام بدمج الشّخصيات الثلاثة، وتكلّم عنهن كشخص واحد (3)، (4). من المهمّ التنويه انّه لا يوجد ايّة اساس كتابيّ لأي من هذه الإفتراضات.
قد تمّ تصحيح هذه المعلومات في الكنيسة الكاثوليكية في الستينات من القرن السّابق، وبعدها حاول البابا يوحنا بولس الثاني تحسين سُمعة مريم المجدليّة عن طريق تسميتها "رسولة الرّسل" عام 1988. صادق البابا فرنسيس على هذه التسمية عام 2016 في مرسوم يرفع تذكارها الى عيد في رزنامة الأعياد العامة (5).
سأتناول قطعتين في الكتاب المقدّس للتأمل في شخصية مريم المجدليّة. سنتأمل في لوقا 8: 1-3 في هذا المقال، وامّا المقال القادم فسيُعنى بِلِقاء يسوع مع مريم المجدلية في يوحنا 20: 11-18.
قلب مُعذّب
وَعَلَى أَثَر ذلِكَ كَانَ يَسِيرُ فِي مَدِينَةٍ وَقَرْيَةٍ يَكْرزِ وَيُبَشِّرُ بِمَلَكُوتِ اللهِ، وَمَعَهُ الاثْنَا عَشَرَ. وَبَعْضُ النِّسَاءِ كُنَّ قَدْ شُفِينَ مِنْ أرَوَاحٍ شِرِّيرَةٍ وَأمَرَاضٍ: مَرْيَمُ الَّتِي تُدْعَى الْمَجْدَلِيَّةَ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا سَبْعَةُ شَيَاطِينَ، وَيُوَنَّا امْرَأَةُ خُوزيِ وَكِيلِ هِيرُودُسَ، وَسُوسَنَّةُ، وَأُخَرُ كَثِيرَاتٌ كُنَّ يَخْدِمْنَهُ مِنْ أمَوَالِهِنَّ. (لوقا 8 : 1-3)
نرى هنا اوّل ذِكر لِمريم المجدلية في الأناجيل (من ناحية سرد احداث)، حيث يأتي هذا المقطع في بداية خدمة يسوع ويصف لنا كيف تبدو هذه الخدمة ومن كان يرافقه خلالها. كما ذكرت سابقًا، حرّر يسوع مريم من سبعة شياطين، ولكن النّص لا يسرد هذا اللقاء او حالتها قبل الشِّفاء.
نرى في الكتاب المقدّس انه لا يوجد قالِب واحد لِعوارض مَن بَهم ارواح نجسة، فنرى انّه يظهر في بعضهم خلال اعراض جسدية (مثلًا: متى 12 : 22، مرقس 9 : 25، لوقا 13 : 10-13) ولآخرين اعراض نفسيّة (مثلًا: متى 8 : 28-34، مرقس 5 : 1-20). لا يوحي الكتاب انّ سبب دخول الشياطين لهذه الأشخاص هو خطيّة او إثم، بل يعرض حياة كلّ منهم كحياة مليئة بالألم، التعاسة، الوحدة، والذلّ. نَظَر المجتمع لهذه الأشخاص بإحتقار وخوف، مانِعًا بذلك تكوين علاقات اجتماعية معهم، واضعًا وصمة عار عليهم واحيانًا على عائلاتهم ايضًا.
بإستطاعتنا التخيّل انّ هذه كانت حالة مريم المجدليّة ايضًا، فمع اننا لا نعلم التفاصيل، لا بدّ ان حياة مع سبعة شياطين هي تجربة مؤلِمة لأبعد الحدود. فبإمكاننا تصوّر الإنعزال، اليأس والإحباط الذين اختبرتهم، وانعِدام الفرح والمحبّة في حياتها.
قلب مُخلِص
إثر تحريرها من الأرواح النجسة، تحوّل الألم في حياة مريم المجدليّة الى اخلاص للمسيح. مع انّ الاناجيل لا تُدوِّن لنا لقاءها مع يسوع، ولكن بإمكاننا رؤية تأثير هذا اللقاء على حياتها، إذ انّ امتنانها لما صنعه الرّب لها تُرجِمَ لالتِزام عميق له.
منح يسوع مريم المجدلية حرّية من قيودها، وبالتّالي اختارت ان تستخدم حُرّيتها الجديدة لِتلتصق بِه وتخدمه، بحياتها وبأموالها. فلَم تفضّل الإستقرار بعد حياة من الفوضى، او تكوين علاقات اجتماعية مع جيرانها- ارادت فقط ان تتبع يسوع. ردّ المسيح حياة المجدليّة لها، وقامت هي بدورها بتكريس حياتها له، فأتخيّلها تُرنِّم: قلبي مديون لحبّك ليّ!
نرى إخلاصها حتى النهاية، فقد كانت عند الصّليب يوم الجمعة مع المريمات ويوحنّا التلميذ بالرّغم من خطورة الموقف. وقفت لتشهد تعذيب وقتل مُخلّصها وصديقها، مَن شفاها ورَفَعها. وبعد ذلك في الدّفن حيثُ تَبِعت (مع مريم ام يوسي) يوسف ونيقوديمس للقبر.
لَنا اليوم
غيَّر لِقاء مريم المجدليّة مع يسوع حياتَها بِشَكِل جذريّ ووَلَّد فيها التزام وولاء عميقين لَهُ ولِخِدمَته، وكلُّ هذا قَبل ان تعلَم انّه سيَموت ويَقوم لأجلِها. نحن نَعرِف اليوم القصَّة بأكملِها، وما يصنعه الله في حياة كلّ منا لا يقلّ عمّا صنعه في حياة المجدليّة. فهل يولّد اختبارنا لنعمة الرّب تكريس وتخصيص كل جوانِب حياتِنا لَهُ؟ هل نتذكّر كيف دعانا الرّب من الظلمة الى نوره العجيب (بطرس الاولى 2 :9)؟ هل يملأ قلبنا بالإمتنان ويُترجَم لحياة مُكرّسة لأجل مشيئته؟