أشعياء 1: 17
"تَعَلَّمُوا فِعْلَ الْخَيْرِ. اطْلُبُوا الْحَقَّ. انْصِفُوا الْمَظْلُومَ. اقْضُوا لِلْيَتِيمِ. حَامُوا عَنِ الأَرْمَلَةِ"
لا يصح للكنيسة ان تعيش أفكار العالم ورغباته، فهي شعب مختار مقدس مفروز للأعمال الصالحة. لها تبعيتها لله ولا لأحد غيره. انها كلمات تحذيرية نعرفها ونقرأها ونعلّمها دائما: لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم، إن أحب أحد العالم فليست فيه محبة الله.
كلمة الله تحذرنا هنا ألا نحب ما يبرزه العالم كأولويات من غنى ونجاح وثقافة وفلسفة حياة، لأن اولوياتنا هي مع الله من خلال مفهومه هو وليس من خلال فلسفة العالم. وألا نحب ما يوفره العالم من شبع روحي لأن شبعنا الروحي في الرب نفسه، فمحبة العالم في هذا المعنى تُفَضِل ما يعرضه العالم للإنسان كحلول متنافسة مع ما يطلبه الله من الإنسان. فكل ما في العالم بعيد عن فكر الله. ولكن في كثير من الأحيان أو حتى غالبا خلطت الكنيسة ما بين التواجد في العالم ومحبة الأشياء فيه وبين دورها هي في العالم، فتحذير الكتاب لا يعني الانقطاع عن هموم الناس، ولا يعني الانفصال عن آلام المجتمع، بل العكس صحيح- دور الكنيسة ان تتغلغل في المجتمع حاملة همومه ومشاركته آلامه من خلال تبعيتها لسيدها يسوع.
وإحدى هذه الازمات العالمية التي مرت فيها الكنيسة ولا تزال تمر بها هو تعامل الكنيسة مع العنصرية، ليست فقط العنصرية الفردية بل عنصرية المؤسسة او العنصرية القانونية.
تعريف العنصرية: العنصرية خطية ضد الله.
العنصرية هي حالة قلبية شريرة ضد الله ترفض الإنسان الآخر كما خلقة الله، تميزه على أنه الآخر, الأقل قيمة لسبب ما، مثل العرق الذي ينتمي اليه أو لون البشرة أو الجنس أو الدائرة الاجتماعية التي ينتمي اليها. العنصرية هي الكبرياء على الله وخليقته ومساندة إبليس في فكر البُغض للآخر. العنصرية بشعة تحتقر الآخر، هي ليست تفرق بل أيضا تتعدى وتظلم، تتعدى على الفقير والضعيف ومُلَون البشرة وغير المُعَرف على انه من النخبة.
النخبة عرّفها هتلر في الفكر النازي، تفّوُق العرق الآري الألماني على الاخرين ووجوب الحفاظ عليه غير مختلط مع الآخرين، تفوق الآري على اليهودي والأسود وصاحب الاحتياجات الخاصة فيتم قتلهم. أما أمريكا فعرّفتها على انها تفّوُق نخبة الشعب الأبيض على الشعب الأسمر فتتم عبوديته وتسخيره لخدمة النخبة العليا.
أيضا النظام الطبقي في الهند هو نظام تقسيم اجتماعي، يعتمد على الطبقات الاجتماعيه، من خلال الاعتقاد بان الدائرة الاجتماعية التي ولد فيها الانسان بها يجب ان تبقى، فيتم تهميشه ومنعه من أي فرصة ممكن أن تسبب في تقدمة ونجاحه.
مثال اخر هو تفوق اليهودي على العربي في بلادنا فتسلب حقوق العرب حتى في المواطنة المتساوية, لتصبح العنصرية مؤسسة ولها قوانينها وقواعدها ويصبح القمع والقتل والتهميش والازدراء الشيء الأكثر منطقيا للتصرف وقد دعم بقوانين حكومية.
السؤال الذي يطرح الان هو: هل للكنيسة دور؟ هل هناك ما تفعله الكنيسة كأفراد وكجماعة؟
في فترة الحرب العالمية الثانية ومع ظهور الحركة النازية وأعمالها كان هناك نقاش حاد في موضوع الحرب وموقف الكنيسة بالذات من النظام النازي ومن هتلر نفسه، فالكنيسة الألمانية اللوثرية كانت تعلّم الفصل بين العدل الكتابي المبني على عدل الله في الخلاص وما بين العدل العام الاجتماعي المبني على قوانين حقوق الانسان. وشيوخ الكنيسة اللوثرية دافعوا عن هذا الموقف بالقول إننا لا نملك الصلاحية الروحية للتدخل في الأمور العلمانية لأن الموضوع يخص الامر الوطني وليس الكنسي. وهذا ما نسمعه اليوم من البعض في بلادنا بأن الكنيسة يجب ان تعظ إنجيل المسيح فقط وليس لها ان تتدخل في الأمور السياسية. في المقابل كان الرأي الكنسي الآخر في المانيا الذي يقول إن الكنيسة لا يمكن ان تتغاضى عن العنف الاجتماعي المؤسسي ويجب ان تقف ضده. وكان قائد هذا الفكر اللاهوتي المصلح والفيلسوف السويسري كارل بارث الذي عاصر الحرب العالمية وشهد نهوض المانيا النازية. دافع بارث عن مسؤولية الكنيسة الأخلاقية في المجتمع وفي السياسة وكتب ان انجيل التبرير في الايمان وحده والعدل الاجتماعي لا ينفصلان عن بعض والاثنان مسؤولية الكنيسة بشكل مباشر. صحيح ان على الكنيسة أن تعظ الانجيل ولكن الانجيل هو أيضا إنجيل كرامة وخدمة الآخر وهذا ما قدمه يسوع.
بارث لم يعتبر الدولة عدوة للكنيسة بل هي أحد وسائل العناية الالهية التي يستخدمها الله، لذلك أكد ان الكنيسة لا يمكن ان تكون ضد الدولة بل للدولة، بمفهوم ان الكنيسة في رسالتها لا تتجاهل رسالة الدولة بل هي تصحح هذه الرسالة السياسة ان تم التلاعب فيها وتكون البوق المتكلم لها في الحق أن حدث أي كذب كما حدث في زمن هتلر. ويسوع كان له المثال في ذلك.
لماذا على الكنيسة ان تقف مع المجتمع ضد العنصرية؟
لأنها بذلك تقف مع الله نفسه. الكنيسة هي المؤسسة الوحيدة القادرة ان تحمل رسالة اجتماعية كاملة ومتكاملة لأنها المؤسسة الوحيدة التي تعمل لمجد الله وليس لمجد ذاتها. لم يعرف العالم ولا في أي مرحلة من مراحل تطوره الأخلاقي في العصر الحديث الاخلاق الا من كلمة الله التي حملتها الكنيسة. صحيح ان اغلب الحركات الإنسانية المعاصرة تبنت اليوم مبادئ الكتاب المقدس ونادت بها على انها مبادئ إنسانية، حتى أن البعض وهو ينادي بهذه المبادئ يحاول ابعادها عن الكتاب المقدس لينسبها لنفسه منكراً الله وكلمته. ولكن ومع هذا، الا ان الإنسان لم يستطيع ابتكار هذه المبادئ بنفسه ولا بمرحلة من مراحل الحياة، بل العكس صحيح، عندما حاول الإنسان ممارسة الحياة الأخلاقية بعيداً عن فكر الله وصل الى أسفل مرتبة الاخلاق، ان كان في العدل وإن كان في الرحمة.
الكتاب المقدس كمدافع عن حقوق الأقليات
يطرح في الكتاب المقدس سؤال من قبل النبي ميخا بالتوافق مع فكر اشعياء. ميخا 6 : 8 "بما أتقدم للرب وانحني للألة العلي؟" الجواب يأتي من ميخا!! "قد اخبرك أيها الانسان ما هو صالح وماذا يطلبه منك الرب. الا ان تصنع الحق وتحب الرحمة وتسلك متواضعا مع إلهك".
الله يقول: تعَلَّمُوا فِعْلَ الْخَيْرِ. اطْلُبُوا الْحَقَّ. انْصِفُوا الْمَظْلُومَ. اقْضُوا لِلْيَتِيمِ. حَامُوا عَنِ الأَرْمَلَةِ
يريدنا الله في هذا النداء ان نكون كعائلة المسيح. اي ان نتعلم وان نتصرف وأن نقحم عمل الخير على حياتنا حتى يصبح الشيء الذي نحياه بشكل مستمر. وان نطلب أي ان نقيم معنى الحق كما من عند الله، فالحق في العنصرية يتشوه ليخدم العنصري نفسه ونحن لا نستطيع ان نشوه الحق كما فعلت الكنيسة في المانيا.
الله يريدنا ان ننصف المظلوم بأن نقف بجانبه وأن نشجعه، بان نسانده في وقت ضيقة ان نقدم التعزية له وأن نسمعه صوت الله ضد الظلم. أن نعرّفه ان ما يمر به لا يرضي المسيح ابدا. ان نقضي لليتيم بان نكون سور حماية لكل من يتعرض الى نهب حقوقه، فما هو اليتيم الا المستضعف الذي يُستباح ماله وتستضعف قوته فيعتدى عليه. أن نتجرأ بكل شجاعة ان نقف مع الارملة، الفئة المستضعفة التي لا تنفع المجتمع بما يريده منها، فهي ليست القوة العاملة بل هي العالة على المجتمع، هي المباح شرفها من الفئة الأكثر قوة، هي الفئة التي تشعر بالعار من فقرها او ضعفها او احتياجها. الله ينادينا لأن نكون مثله في تعامله مع هذه الفئات. الله في كل العهد القديم والجديد أظهر وما زال يظهر تعاطفه مع المظلوم. وليس فقط تعاطفه يل وقفته أيضا، وليس فقط وقفته بل إظهار حقة علنا.
الله العادل المدافع عن حقوق المظلومين
تعَلَّمُوا فِعْلَ الْخَيْرِ. اطْلُبُوا الْحَقَّ. انْصِفُوا الْمَظْلُومَ. اقْضُوا لِلْيَتِيمِ. حَامُوا عَنِ الأَرْمَلَةِ... هذا الامر في صنع العدل لا ينفصل عن صفات الله نفسه، الله السباق في صنع العدل والانصاف للضعيف. العدل والرحمة هما الوجه الواحد ل الله وهذا ما نراه في كل الكتاب المقدس. دائما كان وما زال المظلوم والفقير يستطيع ان يتكل على الله لكي يظهر له حقة. الله اهتم بالفرد الواحد، اهتمام الله كان اهتمام عملي في أصغر تفاصيل حياتنا، بوقوفه معنا الله اهتم بشفائنا بمسامحتنا وباستردادنا وبرد اعتبارنا وبعمل الأمور لتعمل على وجود العلاقة المبنية على محبته لنا.
في بداية الموعظة على الجبل الرب يسوع بدأ كلامه في تأييده المطلق لكل هؤلاء الذين يحبون العدل ويعملون من اجله، فطوبى للجياع للبر، الجياع للعدل والانصاف، الجياع لرؤية المساواة بين الناس، هؤلاء الذين في هذا العالم سيعانون من محبتهم للعدل ووقوفهم مع المظلوم، لأنهم يعطلون على الظالم أرباحه وثرائه.
طوبى للرحماء الذين ينظرون الى أحكام الظلم بحق المسكين ويحاولون أن يفضحوها، رغم آلامهم ورغم معاناتهم على الأرض الا انهم سيجدون الرحمة في حينها.
طوبى لأنقياء القلب، هؤلاء الذين لم تتسخ أفكارهم بالكراهية والكبرياء نحو الآخر، هؤلاء الذين يفكرون في الآخر لمنفعته، يخططون لإنجاح الآخر ورفع شأنه، يطلبون عمل الخير لإفادة المختلف والغريب، هؤلاء يتشبهون في الآب السماوي وفي صفاته فيكون لهم الحق في التواجد بمحضره.
طوبى لصانعي السلام، لمن يصنع سلام مع المقهور والضعيف ليرد له حقه، سلام عادل يعطي الفقير نصيبه ويرد له كرامته المسلوبة منه، سلام يشفي المشاعر الجريحة لأنه مبني على المساواة، سلام فيه نصنع المصالحة بين الناس على أساس المساواة في الحقوق.
طوبى لكل هؤلاء لأنهم يشبهون يسوع في تصرفاته، وطوبى لهم لأنهم يتمثلون في شخص صنع العدل الكامل والنهائي للبشرية كلها، فالكنيسة تتعلم من يسوع الذي في تعاليمه كان هناك دعوة خاصة للفقراء والمهمشين والمستبعدين وفي اعماله وزياراته كان هناك تعامل مع الفئتين المهمشتين التي وقف معها يسوع بكل جرأة وساندها، رأينا اهتمامه في المرأة ورأينا اهتمامه في الخطاة المنبوذين من قبل المجتمع.
في الحالتين، تعاليمه واعماله، يسوع يغيّر القواعد التقليدية ليقف مع هذه الفئات التي كانت تمارَس ضدهم أبشع اعمال العنصرية من اعمال عنف وقهر ونبذ ورفض وعزل، ليظهر فكره نحو هذه الفئات: ذاك القائم على العدل والمحبة.
ومثلهم: المرأة الكنعانية الأممية التي عانت عنصرية اليهود فجعلها مكرمة بإعلان ايمانها القوي الأقوى من ايمان اليهود نفسهم، المرأة الزانية في بيت سمعان الفريسي، التي استرد لها شرفها بقبوله لها وتكريمه لها، تعامله مع البرص المنبوذين بلمسهم والتقرب منهم عندما كان الجميع يبتعد عنهم.
الصليب رمز المساواة بين الجميع
"لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ." (غل 3: 28)
في التبرير الذي قدمه لنا يسوع جعل الجميع متساوٍ. عدل الله الذي قدمه لنا في الصليب كان عدل محب وغافر للجميع دون تمييز. به صالَح الجميع لنفسهِ، وبه قدم الغفران والمحبة للجميع بنفسهِ.
في قبوله لنا كخطاه قدم لنا رعايته الخاصة إن كنا مستبعدين او منسيين، فقراء أو مهمشين، ضعفاء، ارامل وايتام.
تبرير الله لنا في الصليب حررنا لنصبح خدام الانجيل وخدام للآخر الذي هو بدوره مستبعد او منسي، فقير وضعيف او مهمش، ان كانت امرأة ارملة او ولد يتيم.
في حرية العتق من الخطية أصبحنا نخدم المجتمع من اجل المجتمع نفسه وليس من أجل ان نربح خلاصنا. فكما خدَمَنا المسيح في صليبه وبرَرَنا دون تمييز هكذا نحن نخدم الآخرين طالبين لهم المساواة دون تمييز.
ستقف العنصرية وهي أحد قوانين الشر، مع الزنى والقتل والسرقة. هناك تقف العنصرية في صف واحد. لن نرى العالم خال من الخطية الا بعد المجيء الثاني. ولكن علينا ان نسير مع الله في خدمة المجتمع، وإن عدنا لكلام ميخا ففي حديثة يأمرنا ان "تصنع الحق وتحب الرحمة وتسلك متواضعا مع إلهك." على الكنيسة ان تسير متواضعة مع الله في هذا الامر. نخدمه بتواضع من خلال بشارة الإنجيل في الخبر السار ومن خلال الوقوف ضد الظلم، فان لم نفعل الامر الاول فلا معنى للأمر الثاني وإن لم نفعل الثاني فلا أحد سيصدق الأول.
ان لم نعلن خلاص المسيح من خلال اعلان المساواة سنصبح كما كل حركة سياسية لحقوق الانسان، لا شيء خاص في رسالتنا ولا أحد سيستفيد من طرحنا.
أن بشرنا الصليب بالتهرب من مسؤوليتنا للوقوف بجانب المظلوم سنسلب الرب عمله وننتقص من مفهوم الخلاص ورسالة الصليب ستفقد قوتها.