في المقال السّابق، تحدّثنا عن شخصيّة مريم المجدليّة، ووضّحنا بعض الأخطاء الشائعة عن هويّتها. بعدها تأمّلنا في خلفيّتها والتحوّل العميق الذي حَدَث في قلبها بعد لقاءها مع يسوع. سأتناول اليوم لقاء مريم المجدليّة مع يسوع المُقام في البستان، المُدوَّن لنا في يوحنا 20 : 11-18.
السّياق
قُبِضَ على يسوع ليلة الخميس، ومن ثمّ حوكِمَ واعدِمَ يوم الجمعة. تسلّم يوسف من الرّامة جسد المسيح ودفنه قبل دخول السبت. تبِعته مريم المجدليّة ومريم ام يوسي للقبر. لا يُخبرنا الكتاب عمّا حدث يوم السبت، ولكن بإمكاننا تخيّل القلق، الخوف، وازمة الإيمان التي مرّ بها التلاميذ واتباع يسوع.
تأتي النساء، ومن بينهم مريم المجدليّة، فجر يوم الأحد للقبر حامِلات الحُنوط لغَسل جسَد المسيح ودهنه. لكنّهن تجدنَ الحجر مرفوعًا عن القبر. حسب انجيل يوحنّا، تركض مريم المجدليّة لإخبار سمعان بطرس ويوحنا التلميذ اللذان يأتيان بسرعة لينظرا القبر الفارغ والأكفان الموضوعة حيث كان جسد يسوع (يوحنا 20 : 1-10).
قلب مع رِسالة
أَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ وَاقِفَةً عِنْدَ الْقَبْرِ خَارِجًا تَبْكِي. وَفِيمَا هِيَ تَبْكِي انْحَنَتْ إِلَى الْقَبْرِ، فَنَظَرَتْ مَلاَكَيْنِ بِثِيَابٍ بِيضٍ جَالِسَيْنِ وَاحِدًا عِنْدَ الرَّأْسِ وَالآخَرَ عِنْدَ الرِّجْلَيْنِ، حَيْثُ كَانَ جَسَدُ يَسُوعَ مَوْضُوعًا. فَقَالاَ لَهَا: «يَا امْرَأَةُ، لِمَاذَا تَبْكِينَ؟» قَالَتْ لَهُمَا: «إِنَّهُمْ أَخَذُوا سَيِّدِي، وَلَسْتُ أَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ!». (يوحنا 20 : 11-13)
بقيت مريم خارِج القبر تبكي، ذلك ليس بالأمر غير المنطقي، إذ انّ يسوع، الذي رافقته لسنتين على الأقل، قد حوكِمَ محاكمة غير عادلة، اُهينَ وضُرِب امام الجموع، وقُتِل قتل لئيم بغضون ايّام معدودة. يستعمل النّص الاصلي هنا كلمة klaiousa وهي كلمة يونانية تعني النّواح والبكاء الشّديد، غالِبًا للرثاء، مما يُظهر لنا حزن وتألّم مريم المجدليّة العميقين. رأت مريم الملاكين عند القبر، ولربّما لم تميّز كونهما ملاكَين، إذ سألوها عن سبب بكاءها وكانت اجابتها لهما انّ احدهم قام بِسَرقِة جسد سيِّدها. لم يخطر لِمريم انّ يسوع قد قام، حتّى مع رؤيتها للقبر الفارغ. جلّ ما ارادت هو ان تُكرِمه اكرامًا اخيرًا في تأدية مراسيم التكفين، لكنّ الرّب اراد ان يمنحها عطيّة اعظم من ذلك بكثير.
وَلَمَّا قَالَتْ هذَا الْتَفَتَتْ إِلَى الْوَرَاءِ، فَنَظَرَتْ يَسُوعَ وَاقِفًا، وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ يَسُوعُ. قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «يَا امْرَأَةُ، لِمَاذَا تَبْكِينَ؟ مَنْ تَطْلُبِينَ؟» فَظَنَّتْ تِلْكَ أَنَّهُ الْبُسْتَانِيُّ، فَقَالَتْ لَهُ: «يَا سَيِّدُ، إِنْ كُنْتَ أَنْتَ قَدْ حَمَلْتَهُ فَقُلْ لِي أَيْنَ وَضَعْتَهُ، وَأَنَا آخُذُهُ» (يوحنا 20 : 14-15).
يظهر يسوع لِمريم لكنّها لا تُميّزه حالًا بل تظنّ انّه البستانيّ. يسألها يسوع نفس سؤال الملاكين، ويضيف اليه سؤال آخر: "من تطلبين؟" وكأنّه يُشجّعها ان تتذكّر من هو يسوع، ان تتذكّر انّه نفسه يسوع الذي حرّرها، الذي شفى مئات المرضى وصَنَعَ المُعجِزات، الذي اقامَ اليعازر مِن المَوت قَبل اسبوع. انّه نفسه يسوع الذي رافَقَته ورأَت سُلطانه العجيب. وكأنّ يسوع يقول لها: انظري للقبر مرّة اخرى، ولكن هذه المرّة، انظري له بعدسة معرفتك لي. انت تعلَمين مَن انا، انظُري للقَبر الفارِغ مُجددًا وتوصّلي للإستنتاج الصّحيح.
مع هذا، لا تميّز مريم المجدلية يسوع، تتوسّله ان يُخبرها اين وَضَع جسد المسيح وتقترح حتّى ان تأخذه بنفسها!
قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «يَا مَرْيَمُ» فَالْتَفَتَتْ تِلْكَ وَقَالَتْ لَهُ: «رَبُّونِي!» الَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا مُعَلِّمُ. (يوحنا 20 : 16)
بكلّ حنان، بكلّ رقّة، يقدّم يسوع اقصر عظة بالتاريخ: "يا مريم". يخترق يسوع ضبابيّة رؤيتها للواقع عن طريق مُناداتِها بإسمِها. بالفِعِل ما اعظم مَحبّة المسيح ومَدَى مَعرِفَته لإحتياجاتنا. انّه اله شخصي يهتمّ لِكلّ منّا بِعطف ورحمة.
يختار الرّب ان تكون اوّل محطّة له كيسوع المُقام من الأموات هي لقاء امرأة دون اي مقام اجتماعي. فبالإضافة الى انّ شهادة النساء لم تكن مقبولة في المحاكم في تلك الفترة، مريم المجدليّة كانت مُعافاة من سبعة شياطين- مِمّا يقلّل مصداقيّتها اكثر فأكثر (1). يكشف لها المسيح الوهيتّه في قيامته، وهو ذات الأمر الذي يرتَكِز عليهِ ايمانُنا! اودَعَ معها اعظَم خبر في التّاريخ، ويحوّل، مرّة اخرى، ألَمَها لِفرَحٍ مَجيد.
قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «لاَ تَلْمِسِينِي لأَنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي. وَلكِنِ اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ: إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلهِي وَإِلهِكُمْ». فَجَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَأَخْبَرَتِ التَّلاَمِيذَ أَنَّهَا رَأَتِ الرَّبَّ، وَأَنَّهُ قَالَ لَهَا هذَا. (يوحنا 20 : 17-18)
يعطيها المسيح اكثر من هذا، فيوكّلها بِحَمل الخبر السارّ للتلاميذ، مانِحًا لها اعظم رِسالة وهدف. ولهذا سُمّيت "رسولة الرّسل"، و"المسيحيّة الاولى" (2). انّها نفس الرّسالة التي نحملها اليوم، رِسالة مجيدة تملؤنا بالرّجاء.
لنا اليوم
اوّلًا، شجّع يسوع مريم ان تنظُر للقَبر الفارِغ عبر عدسة معرِفتها لهُ ولِسُلطانِهِ. هل ننظُر نحنُ اليوم لِظُروفِنا مِن خِلال هذه العدسة؟ هل نَسمح لِكلمة الرّب ان تُشكِّل نظرتنا للعالم من حولنا؟
ثانيًا، اختار يسوع المُقام ان يظهر اوّلًا لمريم المجدليّة، لا لبيلاطس او يوحنّا او نيقوديمس، مُحطِّمًا بذلك التعريفات الإجتماعية لِمَن يستحقّ حمل رِسالة الله. هل ما زال لدينا ترسُّبات فكريّة دنيويّة لِمَن يستحقّ تأدية ادوار معيّنة؟ هل ننظر للناس بعيون يسوع؟ ام نقيّمهم بحسب ماضيهم او صِفاتَهُم، المُكتَسَبة منها او المولودة؟ لنتذكّر يا احبّة انّ جميعنا لا يستحقّ عطيّة المسيح، فكلّنا خطاة ورجاءنا يكمن في عمل المسيح الكفّاري لأجلنا، وليس في قوانا الذاتيّة. تقول كلمات الترنيمة: اُقِرُّ هُنا بِمُعجِزَتين: قيمتي (وفي ذات الوقت) عَدَم استِحقاقي (3).
واخيرًا، اعظم هديّة قدّمها المسيح لمريم المجدليّة هي رسالة القيامة، وهي رسالتنا نفسها اليوم! هي رسالة الرجاء الذي لنا انّ المسيح غلب الموت وخلّصنا من الخطية جالِبًا ملكوتًا جديدًا للأرض. هل نُركِّز اعيننا على هذه الرسالة؟ انشاركها مع الآخرين؟ هي محور كل شيء!
تُعلِّمنا شخصية مريم المجدليّة الكثير، وهذا فقط البعض من الدروس التي بإستطاعتنا تعلّمها منها. فمع انّ النّصوص التي تذكرها في الكتاب المقدّس قليلة، لا شكّ انها كانت انسانة مميّزة ورسولة شجاعة وجريئة.