طالعتنا وسائل الاعلام بقصة بسالة نادرة عن رجل يهودي من اشدود في الجنوب يُدعى ميخائيل بن زكري استجم قبل عدة أيام على شاطئ "زيكيم" المتاخم للبحر الابيض المتوسط. وهذا الشاطئ معروف بخطورة الاستحمام به فمنعتها السلطات عن طريق لافتات صريحة. لكن ذلك لم يمنع استجمام واستحمام الكثيرين فيه رغم المنع ورغم انعدام المنقذ الرسمي فيه. لاحظ بن زكري ان امواجاً تقاذف امرأة وثلاثة أولاد في عرض البحر فتخبطهم يمنة ويسرى حتى باتوا آيلين للغرق. فهروَل بن زكري للتو ووثب الى قلب البحر وسبح باتجاه المتصارعين مع الامواج وغاص للعمق، وبجهد شديد جرفهم باتجاه الشاطئ لبر الأمان تارة بالدفع بأكثر قوة وتارة بحملهم على ظهره وهكذا أنقذهم من براثن موت مؤكد. لكن وللأسف ومن شدّة اعيائه ولعظم جهده في انقاذهم، خارت قواه فغرق بنفسه في البحر ومات. أما المرأة والأولاد فقد قدمت لهم طواقم الاسعاف العلاج ونجوا من موت محقق وهم يتماثلون الآن للشفاء. وقد كُشفت هوية الناجين وتبيّن انهم من عائلة بدوية في حورة في النقب.
توالت رسائل الاعجاب والمديح من العرب واليهود على السواء لبسالة البطل بن زكري. وأعطى هذا الرجل نموذجاً طيباً يُحتذى به للتضحية فوق الاعتيادية، اذ ان الناجين الذين ضحى بن زكري بحياته لأجل نجاتهم لم يكونوا من بني جلدته- في بلد يتمزق من صراع قومي ينعكس بعنصرية وفصل بين الأعراق.
لا شك ان هذه القصة تعكس قيم محبة وتضحية تحتاج بلدنا سماعها بدل العنف والقهر والظلم والتباعد والتقوقع. كما ان الحادثة المأسوية تحمل رموزاً تذكّرنا بقصة السامري الصالح في الكتاب المقدس. لقد هبّ بن زكري اليهودي هنا لنجدة هذه العائلة العربية، لربما حتى دون ان يعرف اثنِيَتها. وهناك مد السامري يد العون لليهودي الملقى مضرّجا ًبجراحه على قارعة الطريق مع العلم ان العداوة بين شعبيهما تفوق حتى عداوة العرب واليهود اليوم. قدم السامري له اسعافاً اولياً ثم نقله الى الفندق لكي يعالجوه، ومن ثم تكبّد مصاريف تطبيبه. قدم لنا الرب في مثل السامري الصالح درساً في مساواة البشر وفي محبة الانسان كانسان وفي تقدير قيمته النفيسة بغض النظر عن اثنِيَته.
لكن الرمز الأكبر للعمل البطولي لبن زكري هو قصة الفداء اذ ضحى الرب بنفسه ومات على الصليب ليعطينا الحياة. وفي الوقت الذي تتوالى فيه آيات الاعجاب بالعمل البطولي في البحر لكنه في ذات الوقت يسلط الضوء على عظمة خطة العمل الفدائي وهوية المصلوب قبل الفي عام.
نفشل احياناً كثيرة أن نلتفت لهوية الاله الذي ترك عرش سمائه واخلى نفسه ليولد من امرأة وليسير نحو الصليب. بن زكري اندفع بشهامة بطولية لأنه لم يكن منقذ على الشاطئ ولم يكن منقذ آخر مستحق ومؤهل لينقذ البشرية سوى من كان بلا دينونة لأنه دون خطية. لقد ضحى بنفسه من قدمت له شعوب الأرض الذبائح. ان من وضع قياس الأرض ووضع حجر زاويتها (انظر أيوب 38: 4- 41) قرر فداء البشرية، فتجسد وسار كأحد المجرمين الى صليب العار وبعدما دقّوا المسامير في يديه ورجليه بصقوا عليه واستهزأوا به. هل من فجوة في الكون أعظم من تلك التي تفصل بين هوية الاله الخالق القادر على كل شيء الكائن منذ الازل الى الابد وبين صليب خشب حقير على تلة في القدس؟
ذهب يسوع-الاقنوم الثاني في الثالوث- للصليب عن وعي وإرادة كاملة. لقد فعلها لأنه المحبة بذاتها مع انه لم يكن مكرهاً على ذلك، ان جاز التعبير. لقد شهد يسوع عن نفسه حين قال: "ليس أحد يأخذها مني، بل اضعها انا من ذاتي. لي سلطان ان اضعها ولي سلطان ان اخذها أيضا" (يوحنا 10: 18). لقد وضع حياته حبّاً وطواعية بكل ما من معنى لهذا المصطلح. لم تقتصر آلامه على الجسدية وانما ايضاً النفسية، والاصعب هو حجب الله الآب لوجهه عن الابن على الصليب.
نكرّم ميخائيل بن زكري على عمله البطولي ونتذكر من ظروف تضحيته جوانب مميزة تفوق الوصف في عمل الله الفدائي فيزيد تقديرنا واكرامنا لاسمه العظيم.