أثارت قضية تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد، غضب الكثيرين من مسيحيين ومسلمين، لما يحمل هذا القرار من ضربة موجعة لمفهوم التعايش المسيحي الإسلامي، كما يراها آخرون تراجعا جديدا عن مبدأ العلمانية الذي أسس له الزعيم التركي كمال أتاتورك مع تأسيس تركيا الحديثة في أوائل القرن العشرين.
وبغض النظر عن الأقوال والتحليلات والبيانات الغاضبة، استوقفني رأي بعض المسيحيين ومنهم مطارنة أجلاء نحترمهم ونحترم مواقفهم القومية والإنسانية باعتبار تحويل المتحف إلى جامع تعديا على كنيسة.
وما أوقفني هو الفهم الخاطئ لدى العديد من المسيحيين لمعنى "الكنيسة"، فهناك العديد من الأشخاص الذين عارضوا تحويل آيا صوفيا، وانتقدوا بشدة ما حدث للكنيسة، دون فهم لتعريف الكنيسة حسب ما جاء في الكتاب المقدس.
ينظر البعض إلى الكنائس على أنها المباني التي تُعقد فيها الاجتماعات كقول البعض ”الكنيسة التي في منطقتنا" في حين يعتقد آخرون أن الكنيسة هي الطائفة أو المنظمة الدينية كما في سؤالهم "إلي أي كنيسة تنتمي؟” فكلمة "كنيسة" جاءت من الكلمة اليونانية "ekklesia" وهي تعني "الجماعة" أو "المدعوين/المختارين". فأصل معنى "الكنيسة" لا يشير إلى المبنى، بل إلى الناس.
يوضح البابا شنودة الرئيس الروحي لللأقباط الارثودكس في البند 39 من قانون الإيمان أن الكنيسة الأولي هي "جماعة المؤمنين" حيث جاء في أعمال الرسل 2:47 "وكان الربّ في كل يوم يضمّ إلى الكنيسة الذين يخلصون." ويذكر البابا شنودة آيات أخرى تؤكد نفس الفكرة.
فالمعنى الحقيقي للكنيسة هو جماعة المؤمنين الذين يجتمعون معا للصلاة والعبادة، لدراسة كلمة الله وحفظ الفرائض (المعمودية والعشاء الرباني) فهذه هي الكنيسة المحلية.
والبعض يخطئ في التعبير عندما يقول إنه ذاهب إلى الكنيسة. وفي الحقيقة تذهب الكنيسة إلي المبنى، ولا يذهب الناس إلى الكنيسة.
وفي حالنا العربي المسيحي فإن بلادنا مليئة بالمباني الكنسية ولكننا نفتقد الجماعة الحقيقية ونضع الأموال والجهد في تشييد بناء جميل يوفر شعورا روحانيا داخله، ونفتقد إلى بناء جماعة ذات أخلاق ومبادئ روحية صحيحة. والاستثمار الحقيقي يجب أن يكون في الكنيسة الحية أي الجماعة المسيحية وليس في الحجارة. وقد انتبه العديد من القادة المسيحيين في بلادنا إلى هذه الأمور فأقاموا مشاريع سكنية وتعليمية وطبية كلها بهدف حماية وتطوير "الحجارة الحية" بدلا من صرف الأموال للدفاع عن حجارة ميتة، ويقول العديد من القادة إننا نريد المباني الكنسية في بلادنا المقدسة مليئة بالأشخاص، لا أن تكون متاحف.
للأسف، فإن آيا صوفيا أصبحت متحفا قبل عقود، والآن قد تتحول إلى مسجد ليس فقط بسبب سياسات أردوغان العنصرية- وهي قد تكون كذلك- ولكن بالأساس أصبحت متحفاً لأن الحجارة الحية تركت أو أبعدت أو تم تصفيتها.
إن الاهتمام بموضوع آيا صوفيا أمر مهم ولكن يجب أن لا يكون على حساب الاهتمام بالحجارة الحية وهي الشعب. زيادة هجرة المسيحيين العرب تأتي بالأساس لشعور البعض بعدم تكافؤ الفرص أو بسبب إهمال القيادات الدينية للعمل الحثيث على توفير الحد الأدنى من متطلبات الحياة الكريمة.
كلي أمل أن نستطيع مسيحيين ومسلمين عرب، أن نحول شغفنا في موضوع مرّ عليه قرون من الزمن ولم يعد هناك حجارة حية تأمّ تلك المباني، ووضع جهدنا واهتمامنا وأموالنا في تقوية الحجارة الحية في فلسطين والأردن والعراق وسوريا ومصر ولبنان، لكي يتم تطبيق ما قاله زعيم عربي معروف: "إن الأمة العربية حديقة جميلة وأفضل ما فيها هم المسيحيون العرب."
ينقل لنا البشير مرقس قول المسيح::: «أَنْتُم مِلْحُ الأَرض. أَنْتُم نُورُ العَالَم. هكَذَا فَلْيُضِئْ نُورُكُم أَمَامَ النَّاس، لِيَرَوا أَعْمَالَكُمُ ٱلصَّالِحَة، ويُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذي في السَّمَاوات.
فإذا كان مطلوبا أن تكون "جماعة المؤمنين" ملح الأرض ونور العالم فإن أوليتنا يجب أن تكون الحفاظ على هذا النور وعدم السماح بإطفائه بل تقويته وزيادة فعاليته لما في ذلك خدمة للجماعة المؤمنة وللمجتمع المحلي وللأمة العربية.