تخرج الجماهير في بلادنا هذه الايام لتتظاهر بالآلاف. البعض يتظاهر في الساحات المعتادة في تل ابيب وامام بيت رئيس الحكومة في القدس وايضاً وقوفاً وقد رفعوا اللافتات من على الجسور في طول البلاد وعرضها. لكن هذه المظاهرات تأخذ طابعاً مختلفاً هذه المرة. هي مظاهرات غاضبة، صاخبة واحياناً عنيفة. كما ان أغلب المتظاهرين ليسوا من مرتادي المظاهرات الاعتياديين الذين يغادرون بيتوهم لأجل الاحتجاج بسبب حرب او ايقاف عمليات سلام او انسحاب او حتى ارتفاع أسعار السلع. انّما هم اشخاص ذاقوا الأمرّين من نتائج الاغلاق والتقييدات الصحية بعد اندلاع الجائحة. لقد خسر الكثير منهم اموالاً طائلة وتعثرت مصالحهم وحتى أغلقت أبوابها في بعض الأحيان. لقد قضوا السنين في بنائها وتطويرها والآن يرونها على درب الاندثار امام اعينهم وهم في انقاذها عاجزون.
قدمت الحكومة في بلادنا مساعدات مالية فردية للمواطنين وايضاً للمصالح التجارية، لكنها لم تكن كافية للبعض او انه لأسباب مختلفة لم تنطبق معايير التعويض وشروطها على البعض الآخر فباتوا خالي الوفاض.
باختصار- الكل يطلب التعويض وهو منهم كالوهم او حتى كالسراب.
يُعرّف التعويض في قضايا اضرار الإصابات الجسمانية (حوادث طرق او عمل مثلاً) انه مبلغ مالي يُمنح للمتضرر ليعيد بواسطته حالة الأمور الى ما كانت عليه قبل الإصابة. طبعا الأذى الجسماني لن يتلاشى ولن تعود الحالة الى نصابها قبل الاصابة، ولكن تعويض شركات التأمين هو بمثابة ترجمة لقيمة الضرر المادي النابع من الإصابة. فمثلاً يقدّر وجع المصاب ومعاناته بمبلغ مالي وخسارات المعاش الممكنة في المستقبل نتيجة الإصابة تقدّر هي الأخرى.
نطالب الحكومة بتقديم التعويضات لأننا نتوقع منها الالتفات لرعاياها في اعقاب هزة أرضية او جائحة مثلاً لتعوّض عن الضرر الذي الحقته احداهما وهي من اقتطعت منهم الضرائب الجسيمة خلال السنين. على مثال ذلك، كثيراً ما نطالب الله بالتعويضات على خسارات حياتنا- المادية والنفسية والروحية. ليس خطأ أن نلتمس ذلك كما فعل الشعب القديم حين طلب من الرب ان يعوّض عن السنين التي اكلها الجراد وفعلاً وعد الرب بذلك (يوئيل 2: 25). عندها يكون في استجابة الرب وتعويضه فرح وبركة كبيرين. ويمكن ان يقرر الرب ان يعوّض في الحياة الأخرى وليس على الأرض هنا. لنتيقن انه لن يضيع اجر. الرب عادل ورحيم ولن يضيع معه حق.
بكل الأحوال، لنحذر الا تصبح مطالبنا على هذه الارض مركز تركيزنا واهتمامنا الوحيد ولننتبه لما قد يحمل التشديد على المطالب بين طياته.
لنذكر مثلاً اننا احياناً نتجاهل احقاق العدل للآخرين، لكن نطالب به لأنفسنا. بهذا نشبه كثيرٌ من المتظاهرين اليوم الذين لم ينبسوا ببنت شفة حين استغاثت فئات اجتماعية او قومية تطالب برفع الغبن الواقع عليهم. غير انهم يتظاهرون ويحتجّون اليوم بعدما طال الامر قعر جيوبهم فطفقوا يطالبون بإحقاق العدل. لا شك انه عدل انتقائي. ( زكريا 7: 9—13 ومتى 18: 23-35).
قد يقف وراء الاعتقاد ان الرب سيعوّض الخسارات الأرضية هنا قناعة مبطّنة او جلية، أن الله "مدين" لنا بتصحيح الأمور، فهو خالقنا وراعينا والوصي علينا. رغم اننا كثيرا ما نهمله ونحيّده عن شؤون حياتنا حين تجري امورنا على ما يرام، لكننا فجأة نباشر بمطالبته فيصبح هو المسؤول عنا. يظن البعض ان الاستجابة لمطالبنا هي حق لنا وهكذا يلقون كلاما مهيناً من مخلوق لخالق جبار إذا ما شاء ان يمتنع عن تعويضنا بالتوقيت الذي نريده.
ربّما يقرر الرب في سيادته ان يعوّض فعلاً أو الا يفعل على هذه الأرض، فهو القائل ان "كل الأمور تعمل معاً للخير للذين يحبون الله المدعوون حسب قصده" (رومية 8: 28). ولكن الرب يعرف المعنى الحقيقي "للخير". ليس الخير بالضرورة تعويض خسارتنا اذ منظار الله كلي القدرة والمحبة يختلف عن منظارنا. ان الخسارة والفقدان تحصلان باذن منه، ولكن هو من يقرر حيالها. انه صاحب السلطان. قد يكون سبب عدم تدخله وعدم تعويضه انه يريدنا ان نتكرس له ونقترب اليه كملجأ معين يعزينا بفقداننا. حسب منظور الله الابدي فان حميمية العلاقة بين الله والانسان أكثر أهمية من مجرد تعويض مادي او عاطفي مثلاً. كما ان الله قد يمتنع عن التعويض الذي نتمناه لأنه قد يرغب ان يعلّمنا الصبر على الشدائد وتحمل الخسارة لخيرنا (انظر مثلا مزمور 42). ربّما يكون درساً حياتيا لنا لنحسّ مع الآخرين الذين واجهوا او سيواجهون هم ايضاً فقداناً وخسارة وبالتالي رغبة وشوق واحشاء رأفة للتعاطف معهم. ومن المحتمل أن تكون فرصة ورافعة لنقدم من أنفسنا لغيرنا ولنكون بأنفسنا اذرعاً للرب نقوم نحن بتعويض اخوتنا باسم الرب.
ان الصبر إزاء صمت السماء من تعويض الخسائر هو إشارة لعمق الايمان وقوته. انه يعبر عن ايمان بعدل الله وسيادته وصلاحه.
كان الرسول بولس قد طلب من الرب ان يعوّضه إثر "شوكة له في الجسد" بأن يزيل تلك الشوكة، ولكن الرب أحجم واجابه " تكفيك نعمتي لان قوتي في الضعف تكمل" (2 كو 12: 9).
هل نعمة الرب كافية لنا نحن ايضاً؟