تعليمات الحكومات المعنيّة بتخفيف انتشار العدوى، وقطع دابرها إذا امكن، تشمل خطوات بسيطة في ظاهرها ولكن تطبيقها عَسِر للغاية. تكمن الصّعوبة في ضرورة تطبيقها الشامل والكامل عند كافّة المواطنين دون استثناء. فمجرّد تمرُّد مجموعة من المواطنين عليها قد يطلق العنان للفيروس. أي ان الأقلية المتمرِّدة تفرض موقفها وتعرِّض البلدة (او حتى الدولة برمتها) للخطر، إذا شاءت عدم الانصياع للتّعليمات. التّعليمات تشمل استخدام الكمامة لتغطية الفم والانف (وليس الذقن فقط كما يحلو للبعض استخدامها) والتّباعد الاجتماعي لمتر ونصف او مترين ومنع التجمهر (في اعراس او جنازات او حتى في دور العبادة) والمحافظة على النّظافة عن طريق غسل اليدين واستخدام الالكوجل.
الانصياع او عدمه لهذه التّعليمات مرتبط بالخلفية النّفسية والاجتماعية والسّياسية وحتى القيمية لكل مواطن.
ان انصياع العربي في إسرائيل لتعليمات الحكومة بشكل عام هو امر عسير. اذ هو يشعر بالاغتراب فهو اقلية عددية مهمشة يعيش في دولة تعلن جهاراً انها دولة يهودية وديمقراطية في ذات الوقت (مع انه مؤخراً تم التشديد على اليهودية في حال تماس بين المصطلحين المتنافرين). كما انه مواطن في دولة تتصارع فيها مواطنته مع قوميّته العربية او ربّما شعبه الفلسطيني، مما يزيد الامر تعقيدًا. فوق هذا، لا تساهم اصوات العنصرية الرّعناء الرّسمية والشعبوية في شعور الانتماء او الثقة التي هي أساس الاستماع لتعليمات الدولة. بهذه النفسية- يرفض المواطن العربي الانصياع للقانون وحتى ولو جاء هذا لمصلحته وللفائدة العامة ولمنع اصابته بالعدوى والمرض الفتّاك اثرها.
جانب آخر هو التّمسك بنظريات المؤامرة الرائجة للأسف في مجتمعنا العربي. انه الفكر الذي ينظر بشك دائم وراء أي خبر او تعليمات، ويعتبر ان هناك مؤامرة عالمية واسعة الانتشار بين مجموعات قوية التأثير تسعى لفرض هيمنتها على العالم بواسطة اتّفاقيات او حروب او حتى جائحة بطريقة او باخرى. هذا الفكر المتأصل في مجتمعنا وجد له مرتعاً في الجائحة الحالية فانتشر الكلام عن مؤامرات أمريكية وصينية وروسية وارتبط اسم بيل غيتس بالامر. اعتبر البعض الجائحة من صنع البشر (في مختبرات بيولوجية لخلق الفيروس) لاجل فرض المصل لاحقا وبحيث تتمكن قوى عظمى متابعة ومراقبة كل مواطن في كل لحظة في حياته ("الاخ الأكبر"). اما بين المسيحيين فارتبطت بنبوات من سفر الرؤيا عن سمة الوحش التي فسرها البعض كرقائق الكترونية ستوضع في الايدي وستمكن الايادي المتآمرة ان تتابع كل البشر وتفرزهم...وغيرها. ومما يثير الاستغراب ان نظريّات المؤامرة في حالة الجائحة مثلا تتجاهل كون الدول العظمى من أمريكا وانجلترا وإيطاليا وفرنسا هي المصابة الأساسية من انتشار العدوى بعدد الأموات والمصابين مما يقوّض نظرياتهم من أساسها.
ان وجود هذا الفكر في اذهان الناس عامة تجعلهم معارضين للتّعليمات إذ يرون بها مؤامرة شيطانية تهدف للتسلط على حياتهم. ومن هنا يعترضون على التّعليمات ويبحثون عن فرصة للتَّنَصُّل منها وعدم تطبيقها.
يتماشى الفكر المؤمن في نظريات المؤامرة في كثير من الأحيان مع الفكر المعارض والمشكِّك بالعلم. فالجهل الذي يُغذّي نظريّات المؤامرة هو نفسه الذي يرفض دَوْر العلم في إيجاد الدواء والمصل لفيروس كوفيد 19. يتجاهل هؤلاء تاريخ الفيروسات التي انتشرت في عقود سابقة وكيف تم التّسلط عليها بقوّة العلم. ان هذا التّشكيك في العلم يندرج مع نفس الفكر المشكِّك بكل شيء وبضمنه الانصياع للتعليمات.
اما بخصوص التّعليمات المحدَّدَة فانها تتعارض مع قيمة "تأجيل المكافأة" (Delay of (Gratification هذه القيمة يتعلمها الأولاد من صغرهم. حيث ينضبطون ليجلسوا على كرسي الدراسة، مع انها ليست ما يريدون فعله إنّما اللعب واللهو، لكي يحصلوا لاحقاً على المكافأة وهي النجاح وبالنتيجة استحسان اهله وفتح باب الفرص امامهم. يصارع الكبار أيضًا في هذه القيمة اذ يمنعون انفسهم من تناول الطعام في حِميات طبيعية مختلفة مثل الكيتو و16-8 وغيرها ويقومون بالرياضة لكي يجدوا لاحقا مكافآتهم المتمثلة في رشاقة وصحة جيدة. هذه القيمة تلعب دورها امام التّعليمات المتّعلقة بالجائحة. فمن لم يقدر ان ينضبط في امور الحياة، انّما يريد مكافأته حالاً دون انتظار أو تأجيل، لن يستطيع قبول تقييدات الكمامة والبعد الاجتماعي مثلًا لكي يجد الصحة الكاملة الخالية من الفيروس.
اما الصّفة الأخرى التي تتعارض هذه التعليمات معها فهي الانانية الشّخصية. فالإنسان الذي لا يحب غيره لن يقبل تحمُّل شعور عدم الراحة المتعلق بلبس الكمّامة الخانقة لأنه لا يعير اهتماما في غيره ولا يأبه لمرضهم وانتقال العدوى منه (عملياً يجازف بنفسه ويغامر بصحته وفيها عدم مسؤولية).
للأنانية جانب شخصي فردي ولكن لها جانب اجتماعي عام فضعضعة التكافل الاجتماعي والانتماء العام تؤدي لعدم اهتمام الفرد بصحة وخير مجتمعه وشعبه وناسه ودولته.
اين يمكن إيجاد المصل الذي يمكن بواسطته التغلب على العوائق التي تزيد نسب عدوى الجائحة في مجتمعنا؟ انه ليس مصلاً روسياً ولا أمريكيا ولا انجليزياً ولا حتى اسرائيلياً. انه مصل منبعه الهي وتفاصيله في الكتاب المقدس. ان لفظه على كل لسان ويتظاهرون بوجوده في التعاملات لكنه يُفتقد في القلوب. انها المحبة.
هي التي تضحي بالثمين وتعطي من ذاتها وتخدم الغير. انها تريد الخير لهم وتسعى لمصلحتهم. ان نموذجها وبطلها هو يسوع. انه يسكبها في قلوب محبيه.
من فاضت تلك المحبة الباذلة في قلبه سيتغلب على شعور الغربة والمرارة نتيجة التهميش. كما انه سيضحي لأجل صحة غيره بأن يلتزم بالتعليمات الخانقة. المحبة ستنظر الى ما بعد المكافأة الآنية (الراحة الوقتية) لترى مصلحة الخير ورفاهيتهم.
انه مصل لا يخيب وقد جربوه على بني البشر لعصور وعصور ووجدوا نجاعته.
انهلوا منه مباشرة من النبع.