خلال الأشهر الماضية تغيّرت ظروف الخدمة الكنسيّة في بلادنا والعالم اجمع. نظراً لتعليمات السلطات المعنيّة ولصحة المواطنين والحاجة للتباعد الاجتماعي، مُنع التجمهر او حُدد عدد المجتمعين في باهة الكنيسة. فأضحت خدمة العبادة في زمن الاغلاق والحصار تُقدَّم عن طريق الانترنت (ان كان بواسطة تطبيق زوم او منصة الفيسبوك لايف او غيرها). فكانت النتيجة حضور مشتت للخدمات المعروضة على شاشات الهواتف والحواسيب يرافقها سهولة الانتقال لحضور بث خدمات لكنائس وواعظين آخرين. فعمّ شعور بالكسل وفُقدت روح الجماعة والشركة ومعها الانتماء الكنسي الشخصي. بانعدام التواصل الإنساني الروحي أصبحت خدمات الكنيسة للكثيرين بمثابة برنامج تلفزيوني، ان جاز التعبير. يتابعونه إذا راق لهم، وإلّا تستعرض اصابعهم خدمات روحية أخرى عن طريق جهاز التحكم عن بُعد او فار الكمبيوتر، عسى يكون غيرها اكثر جاذبية وتشويقاً. أصبحت الساعة الروحية شبيهة بالتسوّق بالنظر لواجهات العرض في الدكاكين ويمكن بسهولة الانتقال من الواحدة للأخرى بكبسة زر او "كليك".
كيف ستتعامل الكنيسة المحلية مع هذه الظاهرة بعد انتهاء الجائحة بإيجاد المصل، بإذن الله؟
كيف ستُصلح الكنيسة الخراب المتمثل بروح الكسل وروح التسوّق في حياة المؤمنين بعد عودة الحياة الكنسيّة لمجاريها الطبيعية؟
لو نظرنا لكل فقرة من الخدمات الكنسية بمفردها وكأنها بمثابة عرض يشاهده الناس- عندها سيجد المؤمن بسهولة عبر الانترنت فرق ترنيم بارعة تبثّ ترانيمها بأجمل الأصوات وأعذب الالحان وأكثر العازفين اتقانا على آلات ذوات الاوتار أو آلات النفخ وهي تتفوق على جوقة كنيسته المقلّصة من ناحية الموسيقى والأداء. كما سيجد في الفلك الافتراضي وعّاظ ذوي بلاغة وفصاحة ومعرفة كتابية وطريقة وعظ جذابة وحتى مواضيع ملفتة للنظر اكثر مما يقدمه راعي كنيسته.
لكن النظرة للخدمة الكنسية بهذا المنظار الاستعراضي خاطئة. اذ لم يؤسس الرب كنيسته على الأرض في يوم الخمسين لكي تكون برنامجا استعراضيا. لم يوجدها لتشمل عناصر الخدمة الكنسية فيحضرها افراد متنوعين من كل انحاء العالم، مع ان حضور الخدمات المعروضة جيد بحد ذاته. لكن أصل كلمة "كنيسة" في اليوناني والعبري ("اكليسيا" بالاولى و"كهيلا" بالثانية) تعني الجماعة. انها تتشكل من افراد سلّموا حياتهم للرب. ويرغبون كتلاميذ الاجتماع مع افراد آخرين لعبادة الرب وخدمته في مكان واحد تحت رؤيا واحدة للمكان الجغرافي وبحسب نظام اتفقوا عليه للعمل.
لكن مجرد طرح هذا الفكر الكتابي للكنيسة لن يمنع الناس بعد مرور الجائحة من الاستمرار في نهجها الذي اعتادت عليه وهو الانفصال عن جماعة المؤمنين والاستمرار باستلام الخدمات الروحية عن طريق الانترنت وعن بُعد- ان حافظوا على ايمانهم أصلا.
اعتقد ان عنصر أساسي لا يمكن لعرض الخدمة الكنسية على الانترنت ان يجد له بديلا هو عملية "التجسد"، ان جاز التعبير. فكما قام الرب بترك اعلى سماه وولد وعاش في ارض الشقاء معنا "مجرباً في كل شيء"، هكذا يقوم الراعي الحقيقي "بالتجسد" في كنيسته. فهو يعيش نبض رعيته فيكلمه الرب بعظات هي من صلب واقع حياة البقعة الجغرافية المحددة التي يحيا بها. ان كانت بيئة خدمة الراعي ملوثة بخطيئة تعظّم المعيشة مثلا، فانه يكلمهم بكلمة الرب عنها وان كانت بالعنف او الجنس او التكبر او العنصرية، فانه يتكلم بكلام الرب ليخاطب هذه الحاجات. ان كانت كنيسته تعاني من الناموسية مثلاً او من رخاوة في القداسة فيكلم رعيته بها لكي يساعدها لتسير زمان الغربة بخوف كتلاميذ أمناء. انه يرعى النفوس ويسمعها ويتفاعل معها ويهتم بها شخصياً. انه يتجسد في حياة رعيته وهذا مما لا يمكن لأبرع واعظ يبث عظاته على الانترنت او غيره ان يعمله.
والامر ليس مقتصراً على الراعي او قيادة كنيسته او الوعاظ او لجنة الكنيسة بل هي لكافة الاعضاء. فالكنيسة هي جسم حي متفاعل بالمحبة والشركة وحمل أعباء وبناء بعضهم البعض. انعدام مجال الشركة خلال فترات الاغلاق المتكررة، فيما عدا بوسائل التواصل الاجتماعي، تحمل في طياتها جفافاً كالأرض الجرداء. فلقد خُلقنا كبشر نحتاج بعضنا بعضا ورغم التفاوت بين الشخص والآخر لكننا مخلوقات اجتماعية بدرجات مختلفة. ان اللقاء والحوار والانصات والضحك والبكاء سوية وحتى العناق والضم والتفاعل البشري بكل انواعه مع الغير هو الاكسجين. بانعدامه لا تموت صورة الله فينا فحسب بل ايضاً طعم الحياة للكثيرين منا.
ان اعادتها لمركز حياة الكنيسة هي عامل جاذب للنفوس لتقوم عن الاريكة وترمي فارة الحاسوب وجهاز التسلط من بعيد للقاء حميم مع باقي الجسد.
عسى ان يساهم هذا الطرح لتحفيزنا لتحضير الأجواء لأجل تنشيط هذا الجانب الحيوي في حياة الكنيسة لما بعد بعد الكورونا- ابعدها الله عنا دون رجعة.