تصاعدت وتيرة أعمال العنف ضد النساء في السنوات الأخيرة على الرغم من سن العديد من القوانيين التي تسعى إلى حمايتهم. كما لا يمكننا إنكار أن هنالك فئات في مجتمعاتنا العربية ترفض فكرة سن قوانيين تفرض حماية على حقوق المرأة وحياتها وحريتها، وحتى اعتماد أي اتفاقية دولية تضمن ذلك كاتفاقية سيداو. (1) كل ذلك يأتي بالإضافة إلى التعليقات المستفزة على مواقع التواصل الاجتماعي على قضايا وأخبار قتل نساء في فلسطين -والعالم العربي- والتي تُحمل النساء الضحايا المسؤولية عن جرائم قتلهن وتعنيفهن. كما يبدو أن هنالك حالة إنكار وتجاهل لحجم وبشاعة تلك الجرائم. عندما سألت طلاب وطالبات كلية بيت لحم للكتاب المقدس إن كانوا قد سمعوا بحادث تعنيف واحد على الأقل ضد المرأة خلال العام الحالي، رفع الأغلبية أيديهم. فكم من مرة سمعت/تِ عزيزي/تي القارئ والقارئة عن حادث واحد على الأقل خلال الأشهر الماضية؟ في دراسة أعدها الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن نسبة النساء اللواتي تعرضن للعنف أو التعنيف تقدر ب 52% في عام 2019 مقارنة 59% في عام 2011. (2) إن انخفاض الأرقام لا يستحق الاحتفال، فلا زالت النتائج تٌظهر بأن أكثر من نصف نساء المجتمع قد تعرضن للتعنيف بشتى أنواعه. أرقام مشابهة تؤكد على تفشي الظاهرة بين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة لعام 1948. بحسب دراسة أعدتها جمعية الجليل فإن ما يقارب 60% من النساء اختبرن تعنيف لفظي ونفسي، و20.9% تعرضن لعنف جسدي. (3) كما لا يمكننا إنكار بأن هذه ظاهرة ليست مقتصرة على العرب بل أنها عالمية. أتصور أن خلال الأشهر الماضية، وخاصة مع أزمة فايروس كوفيد 19، شهد المجتمع العربي الفلسطيني -في أرجاء أراضي فلسطين التاريخية- بشكل خاص والعالم بشكل عام، زيادة في أعداد أحداث العنف والتعنيف الأسري. (4) في غالب الأحوال، فإن تلك الأحداث تطفوا على السطح وتجذب انتباه الناس والمهتمين لفترة وجيزة ثم تنسى، بحيث لا يوجد تعامل صادق وحقيقي مع المشكلة. أما عندما تقدم الحلول، فهي تكتفي بمعالجة الأعراض وليس الأمراض وجذور المعضلة. في مقالي هذا أود أن أنظر إلى نص تكوين 4، حادث قتل قايين لأخيه هابيل لكن بعيون المرأة المعنفة، وسأطرح بعض الأفكار التي أتأمل أن تساعدنا جميعاً.
في نص تكوين 4، يندفع قايين بغيرة وغضب لقتل أخيه هابيل. الأسباب التي أدت إلى الجريمة تبقى غامضة إلى حد كبير. في حين يبدو أن الرسول بولس والرسول يوحنا يعتمدان على التقليد اليهودي في تقديم أسباب فعل قايين. رغماً عن ذلك، لا يوجد مبرر، مهما كان، لسلب أي إنسان حياته. لذا، يجب ألا نعتمد على محاولات إيجاد تبريرات للفعل، بل الاهتمام برفض الفعل بذاته. بحسب النص، يمكننا التأمل في فكرتين رئيسيتين:
أولاً: مشكلة العقلية. إن الجريمة بحق النساء ليست صدفة أو وليدة لحظة ورد فعل غير محسوب، إنما هي جريمة تولد من فكرة متأصلة عن النساء في عقلية ذكورية متصلبة تتحول إلى فعل -وجرم- ملموس. يحذر الله قايين من تلك العقلية والفكرة، "فقالَ الرّبُّ لِقايـينَ: «لِماذا غَضِبتَ ولِماذا عبَسَ وجهُكَ؟ إذا أحسنْتَ عمَلا، رفَعْتُ شأنَكَ، وإذا لم تُحسِنْ عمَلا، فالخطيّةُ رابِضةٌ بِالبابِ وهيَ تَتَلهَّفُ إليكَ، وعلَيكَ أنْ تسُودَ علَيها». (تكوين 4: 6-7) كان على قايين أن يتغلب على الفكرة والعقلية التي كانت تستحوذ عليه وتدفعه لارتكاب الجريمة. إن المشكلة الأساسية لأي جريمة تكمن في العقلية التي ترسم خطى وتبريرات للفعل. لعل أوضح مثال عن ذلك هو انعكاس عقليتنا على قراءتنا وتفسيرنا للكتاب المقدس، وتفسيرنا له. يقول غوردن في ودوغلاس ستويرت، وهما معلميّن إنجيليين معروفيين للكتاب المقدس، بأن كل قارئ للكتاب المقدس هو مفسر. (5) لذا، فإن قراءتنا وتفسيرنا للكتاب المقدس تعكس عقليتنا. على سبيل المثال، لنقرأ نص مقابلة يسوع للمرأة السامرية في يوحنا 4: 16-18، "قالَ لَها: «اَذهَبـي واَدْعِي زوجَكِ، واَرجِعِـي إلى هُنا». فأجابَتِ المَرأةُ: «لا زَوجَ لي». فقالَ لها يَسوعُ: «أصَبْتِ في قولِكِ: لا زَوجَ لي، لأنّهُ كانَ لكِ خَمسةُ أزواجٍ، والذي لكِ الآنَ ما هوَ زَوجُكِ. وفي هذا صَدَقْتِ». إن الفرضية التفسيرية للحوار يسوع مع المرأة جعل البعض يعتقد بأن النص يعكس أن المرأة لم تكن حسنة السيرة ويرسمها بصورة سلبية. القمص أنطونيوس فكري، على سبيل المثال، يدعوها "الساقطة" التي تحولت إلى كارزة. (6) كذلك أيضاً فسر الأب لويس حزبون بأن المرأة كانت في علاقة زواج غير شرعية وتعيش حياة الخطيئة. (7) إن توجه القمص فكري والأب حزبون يتوافق مع مدرسة النقد التاريخي في تفسير الكتاب المقدس. لكن اسمح/ي لي أن أقدم مقترح تفسيري أخر. إن النص ذاته لم يوضح طبيعة وتاريخ علاقات المرأة الزوجية أو حالتها الاجتماعية، أكانت بالفعل متزوجة لكنها طُلقت، أم مات أزواجها؟ لماذا وضعت الفرضيات التفسيرية ضدها، ولم تقدم فرضية أخرى تُنصفها؟ قد تكون المرأة السامرية ضحية مجتمع ذكوري قد أباح للرجل الطلاق أو وصمها بصورة سلبية لأنها أرملة. على كلا الحالتين قد تكون تعرضت لظلم قاسي من المجتمع، ومن بعض المفسرين. (8) لذا، أقترح إعادة النظر في تفسيرنا التقليدي المتأثر بذكورية المجتمع لقراءتنا للنص بما قد يصنع عدلاً للمرأة السامرية ونساء أخريات.
ثانياً: مشكلة السلوك. تبقى الفكرة دفينة العقلية إلى أن تتحول إلى سلوك. لقد حذر الله قايين من أن تتحول أفكاره إلى فعل. وبعد ارتكاب الفعل نشهد مشكلة السلوك في توجهين رئيسيين: الأول هو محاولات تبرير القتل أو الجريمة من خلال تجاهل أهمية حياة الأخر. مثلاً، في قراءتنا لإنجيل يوحنا 8 وحوار يسوع مع المرأة -الزانية- والفريسيين، فإن الفريسيين حاولوا تبرير قتل المرأة ورجمها لسبب أنها ارتكابها خطيئة الزنى. بحسب الشريعة اليهودية فيلزم حضور الزاني والزانية وأثنين من الشهود حتى يتم الحكم بشكل مناسب. إلا أن الفريسيين لم يتبعوا الشريعة في جلب الرجل -الزاني- مع المرأة للمحاكمة، بل حاولوا سلب المرأة حياتها من خلال خلق التبريرات الواهية. أما الثاني فهو رفض تحمل المسؤولية عن الجريمة. أي أن المجرم لا يكتفي بمحاولة تبرير الجريمة، بل أيضاً يرفض تحمل مسؤوليتها. هذا ما فعله قايين. في سؤاله، "أحارسٌ أنا لأخي!" فإن قايين يتهرب من المسؤولية عن حياة أخيه والجريمة التي ارتكبها في حقه. وكم من مرة نجد أن مجتمعنا يتهرب من تلك المسؤولية اتجاه النساء ويتساءل "أحارسٌ أنا لأختي!" السؤال في حد ذاته لا يتطلب إجابة. الإجابة بديهية، نعم، أنا حارسٌ لأختي. عندما نحاول التهرب من المسؤولية، فيجب علينا أن نتنبه لحقيقة تبعيات تهربنا منها. في الكتاب المقدس مثال مهم عن ذلك. نقرأ في 2 صموئيل 13 عن حادث اغتصاب أمنون -ابن الملك داوود- لأخته ثامار، وتجاهل داوود للحادثة وتحمل مسؤولياته كملك وكأب. فنقرأ ما يلي: "وسمِعَ داوُدُ المَلِكُ بِكُلِّ ما جَرى، فغضِبَ جِدًّا لكِنْ لم يَشأْ أذيَّةَ ابنه أمنونَ، لأنَّه كانَ يُحبُّه، فهوَ ابنه البِكرُ." (2 صمو 13: 21، الترجمة العربية المشتركة) نتيجة لرفض داوود تحمل مسؤوليته، انقسم بيته وقتل أبشالوم أخيه أمنون. (9) ومن هنا نشهد بداية الخلافات في مملكة وبيت داوود. نتعلم من ذلك أن رفضنا تحمل المسؤولية عن الجرائم ضد النساء في مجتمعنا وعالمنا إنما سوف يؤدي إلى تصدع في علاقاتنا وفي النهائية انهيار للبنية الأخلاقية والقانونية والمجتمعية في عالمنا.
عزيزي/تي القارئ والقارئة، إننا بحاجة لتجديد أذهاننا وأفكارنا كما يعلمنا الرسول بولس (رو 12:2، أف 5: 25) حتى يتغير سلوكنا، والسبيل إلى ذلك هو الاعتراف بالخطأ ومحاولة إصلاحه لا تبريره، تحمل المسؤولية بدل التهرب منها، والسعي للتغيير لا الحفاظ على ما هو قديم وبالي. إن تجديد عقليات وسلوكيات مجتمعاتنا جزء مهم من خدمة الملكوت. إن ملكوت الله يشكل بديلاً للملكوت الأرضي الظالم. وهنا أود تقديم بعض الاقتراحات للكنيسة المحلية بخصوص موضوع التعنيف ضد المرأة.
في البداية، إن الكنيسة بحاجة إلى إعادة النظر في التفسيرات التقليدية للنصوص والتي تجرم المرأة وتنتقص منها. إن دعوة الكنيسة هي لنشر الأخبار السارة وكلمة الحياة. أخبار سارة للجميع وكلمة حياة لا موت، للنساء والرجال على حدٍ سواء. ثانياً، يجب أن تكون الكنيسة بيت أمن للنساء المعفنات، بل ومحاولة إيجاد الوسائل النفسية والقانونية لحمايتهم ودعمهم. ثالثا، على الكنيسة أن تكون حاضنة ومساندة للنساء من خلال دعم فكرة المساواة بين الرجل والمرأة في المجتمع والكنيسة وعلى كافة المستويات.
في الختام، فليكن موقفنا لحماية النساء وإعطاءهم حريتهم جزء من إرسالية الملكوت لشعب الله وكنيسته بالفعل لا بالكلام فقط، فكما يقول الرسول بولس، " لأَنَّ مَلَكُوتَ اللهِ لَيْسَ بِكَلاَمٍ، بَلْ بِقُوَّةٍ." (1 كور 4: 20) واليوم أدعوك/ي لأن تتأمل/ي بالسؤال، "أحارسٌ/ أحارسةٌ أنا لأختي؟" وماذا أفعل لأكون حارساً/حارسةً لها؟
1) أنظر/ي التالي: https://www.maannews.net/news/2017489.html
2) "النتائج الأولية لمسح العنف في المجتمع الفلسطيني،" الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، تشرين الأول 2019: رام الله. التقرير متوفر على: http://www.pcbs.gov.ps/Downloads/book2480.pdf
3) "إحصائيات: ارتفاع نسبة العنف ضد المرأة العربية بالبلاد،" عرب 48، 07 مارس 2019، https://www.arab48.com/%D8%B4%D8%A8%D8%A7%D8%A8-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%AA%D9%82%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B1/2019/03/07/%D8%A5%D8%AD%D8%B5%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%AA%D8%B4%D9%8A%D8%B1-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D8%B1%D8%AA%D9%81%D8%A7%D8%B9-%D9%86%D8%B3%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%86%D9%81-%D8%B6%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%A3%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%84%D8%A7%D8%AF
4) أنظر أيضاً https://www.aljazeera.net/news/women/2020/5/29/%D9%81%D9%8A-%D8%B8%D9%84-%D9%83%D9%88%D8%B1%D9%88%D9%86%D8%A7-%D8%AC%D8%A7%D8%A6%D8%AD%D8%A9-%D9%85%D8%B3%D8%AA%D8%AA%D8%B1%D8%A9-%D8%B9%D9%86%D9%81-%D8%A3%D8%B3%D8%B1%D9%8A-%D8%B6%D8%AF
5) غوردن د في ودوغلاس ستويرت، القيمة الكاملة: دليل إلى قراءة الكتاب المقدس وفهمه، ترجمة دار الكتاب المقدس (القاهرة: دار الكتاب المقدس، 1994)، 16-17.
6) أنطونيوس فكري، "تفسير العهد الجديد: إنجيل يوحنا 4،" موقع القديسة تكلا، https://st-takla.org/pub_Bible-Interpretations/Holy-Bible-Tafsir-02-New-Testament/Father-Antonious-Fekry/04-Enjeel-Youhanna/Tafseer-Engeel-Yohanna__01-Chapter-04.html
7) لويس حزبون، " يسوع والمرأة السامرية عند بير يعقوب،" موقع أبونا، 21 مارس 2020، http://abouna.org/article/%D9%8A%D8%B3%D9%88%D8%B9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%A3%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A7%D9%85%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D9%86%D8%AF-%D8%A8%D9%8A%D8%B1-%D9%8A%D8%B9%D9%82%D9%88%D8%A8
8) توافق آن ديفيدسون من جامعة أندروس على هذه الفرضية. راجع/ي:
Jo Ann Davidson, "John 4: Another Look at the Samaritan Woman," Andrews University Seminary Studies (AUSS) 43.1 (2005),
Available at: https://digitalcommons.andrews.edu/auss/vol43/iss1/10
9) Godian Ejiogu, “‘ We Are All Tamar ’: Transforming Culture through the Bible ( A Dialogue within Amsterdam ),” in Bible and Transformation: The Promise of Intercultural Bible Reading, ed. Hans and Janet Dyk de Wit (Atlanta: Society of Biblical Literature, 2017), 197–206.