النهضة العلمية والتكنولوجية التي شهدها العالم في القرنين الاخيرين لم يَرَها العالم في كل تاريخه. فللمثال فقط وحتما ليس الحصر، في الوقت الذي لم تكن قد اخترعت السيارة قبل قرنين بعد، اصبحت اليوم المركبة الاوتونومية التي تسير وحدها دون سائق بواسطة حاسوب متطور قيد الاطلاق. ناهيك عن السيارات المتطورة للغاية التي تسهل على السائق وتلائم الحرارة والمقعد والسرعة والشبابيك بتقنيات دقيقة. لم يعد الافراد العاديون قادرون على مواكبة التجديدات والتحديثات التي يبتكرها المخترعون في فترات متقاربة.
لقد رافق التقدم التكنولوجي المبارك روح مباركة أخرى هي وعي عالمي لحقوق الانسان وحرياته مثل حرية التعبير والعبادة والحركة وغيرها. فانطلقت الانظمة الديمقراطية التي وضعت الانسان، كل انسان، في المركز. من انسان تقمعه وتنكل به السلطات أو بالأحرى من وكلوا أنفسهم كقادة وحكام، أصبح للإنسان حقوقاً لمجرد كونه انسانا. اما الإطار العقائدي/ لاهوتي لهذا التركيز على مركزية الانسان، فيعود لكشف حقيقة قديمة العهد هي ان الله خلق الانسان على صورته كشبهه. فمن منطلق احترامنا لصورة الله في الانسان، وهِب البشر حقوقا وحريات.
لكن وللأسف أعقب النهضة العلمية الجبارة وانتشار حقوق الانسان في دول كثيرة، روح تمرد واستقلالية الانسان عن الله.
لقد حذت الاكتشافات المهولة بالإنسان ان يعتقد انه سَبَر غور الكون، فأصبح يعتقد انه شبه إله او اكثر. لقد اعتقد انه عندما كشف أسرار الذرة والخلية وارجاء الكون، انه ليس بحاجة لإله؟ كل ذلك، رغم ان ما اكتشفه هو النزر اليسير من ضخامة الكون وتعقيده. كما ان البركة الثانية، وهي حقوق الانسان، تحولت هي الاخرى للعنة، اذ ان الانسان انتفخ لمنحه الحقوق. فأما راح يسيء استخدامها او انه اعتقد انه اصبح اله بحصوله على الحقوق.
لا ننكر ان التقدم العلمي وانتشار حقوق الانسان ساهما لحد معين في تهذيب الانسان. لكن استبدال الكثيرين قيم الرب بمبادئ جديدة مثل التسامح وقبول الآخر، اعتبرها الانسان خطأ من صنع يديه مع انها من لدن الاله. وهذه المنظومة "الجديدة" من القيم كرست عن كثيرين الفكر الرافض للإله، فهم لا يحتاجونه- لا لقيم الحياة ولا لتطور ولا لحرياتهم. لقد أعلنوا استقلالهم عنه.
على الرغم من التطور الهائل كما أسلفنا، باغت العالم فيروس صغير لا يُرى بالعين المجردة قبيل عام 2020 بقليل، فشلّ حركة العالم برمته. ويا للهول، فقد هاجم الدول المتطورة ذات القوة العسكرية والعلمية امثال امريكا وانجلترا وفرنسا وايطاليا واسبانيا اولاً. ولم ينجُ منه حتى قادة عالميين ذوي نفوذ مثل ترامب ، جونسون وبولسينيرو. ولولا رحمة الله لفارقوا الحياة من جراء اصابتهم بعدوى الكورونا. دخل العالم لحجر صحي وحددت حركته. توقف الاقتصاد، خسر الكثيرون وظائفهم واعمالهم، كما اصبح التعليم في المدارس والجامعات تزامنياً وحتى ابطل الاجتماع في كثير من دور العبادة واضربت اغلب الطائرات عن الطيران وغيرها.
قزّم هذا الفيروس الانسان. فمن عملاق جبار مستقل أضحى الانسان هزيلا وتحت رحمة ربنا. الحكومات ذات العتاد الحربي التي اقتنيت بمليارات الدولارات، توقفت عاجزة امام هذا الفيروس. وقف رجال العلم والطب المتميزون عاجزون ودون حيلة في ايديهم. من رجال ونساء فكر وعلم وجبروت أمسى الجميع عاجزا.
لن نستغرب ان يجد العلماء المصل المنشود، فنعود لحياتنا الطبيعية، ولا نرجو الا ذلك.
لكن الا تثير احوال العالم برمته خلال الاشهر الاخيرة اسبابا للتوقف الفردي برهة وسؤال أنفسنا اذا كان المنحى الذي سرنا معه بسرعة جنونية صحيحا؟ لقد سرنا وراء التقدم العلمي من جهة والحقوق من الجهة الاخرى وأهملنا النظر للأعلى.
اعتقدنا بعنجهية وكبرياء انه لا حاجة لنا للرب وبمقدورنا السير في طريق الحياة بأنفسنا دون اي مساعدة او ارشاد.
لكن الجائحة وما فعلته بالبشر اثبتت دون مجال للشك انه يتوجب طلب معونة الرب لرفع الوبأ ولشفاء المرضى ولإيجاد المصل... وللحياة ككل.
ان العالم المركّب والمعقّد لأدق التفاصيل خلقه اله كلي القدرة. اي تغيير في تركيب العالم- ان كان بارتفاع حرارة الجسم خمسة درجات او بتوقف نبضات قلب لبضع ثواني او بإزاحة حركة الارض نصف درجة او بظهور فيروس غريب- كفيلة بإخلال توازن الانسان وانتهاء حياته.
انها درس في التواضع لمن ظن انه يمسك زمام الامور وانه متسلط ومتحكم ويقدر ان يعيش بمعزل واستقلالية عن الاله.
رغم جبروته وعظمته لكن الله يريد علاقة محبة معك، ويريدها ان تكون بإرادتك الحرة وليس اكراها.
انه وقت مناسب لتتواصل معه بالصلاة وتتكل عليه للحماية والارشاد والعناية.