عطفا على المقال الأول الذي كتبته عن علاقة الكنيسة بالدولة زمن الكورونا، طلب مني البعض أن أسترسل في بعض القضايا، رغم صعوبة الموضوع ومحدودية الوقت، قررت أن أكتب بعض الأفكار علّها تساعد بعضنا في الإبحار نحو شاطئ الأمان زمن هيجان الأوبئة وانتشار الإغلاقات وتزايد القوانين التي تحدد النشاطات الكنسية وباقي النشاطات في الدولة.
يقول الكتابُ الـمقدس: "وكانوا يواظبون على تعليم الرسل، والشركة، وكسر الخبز، والصلوات" (أع 2: 42). ويقول أيضا: "غير تاركين اجتماعنا كما لقوم عادة، بل واعظين بعضنا بعضا، وبالأكثر على قدر ما ترون اليوم يقرب" (عب 10: 25). ولكننا لا نستطيع تحقيق هذه الوصية الإلهية في الظروف الحالية. صدرت القوانين الحكومية التي تمنع اللقاءات وجها لوجه بسبب جائحة كورونا. ولهذا تكاثرت الخدمات الافتراضية على شبكة الانترنت. وصار الواقع الافتراضي بديلا عن الواقع الفعلي. وبدأ البعض في التفكير في طبيعة الكنيسة. فهل من المسموح أن تكون الكنيسة افتراضية ومحوسبة بدلا من أن تكون وجها لوجه. سأطرح في هذا المقال القصير بعض التحديات التي ستواجه الكنيسة الافتراضية. ولا أستخدم كلمة معضلة بل كلمة تحدي لأنني غير متأكد من مدى صعوبة إيجاد الحلول المقبولة لاهوتيا وكنسيا وعمليا.
- التحدي الأول: يتطلب تكوين العلاقات المسيحية العميقة التفاعل البشري وجها لوجه. وتشمل العلاقات هويةً جماعية تشترك في كونها نورا وملحا للمجتمع.
- التحدي الثاني: ممارسةُ الفرائض فعليا وليس افتراضيا مكونٌ أساسي لمفهوم كنيسة. وعندما لا يكون هناك ممارسة للمعمودية وكسر الخبز والوعظ فإن المجموعة لا تكون كنيسة.
- التحدي الثالث: تتطلب ممارسة التأديب الكنسي تفاعلا فعليا وليس افتراضيا. لا يوجد مساءلة كافية وشفافية في علاقاتنا الافتراضية. ولا يوجد آليات صحيحة للتأديب الكنسي.
- التحدي الرابع: ممارسة مراسيم الزواج والجنازات تتطلب حضورا فعليا وليس افتراضيا بسبب التعاطف والتكاتف والسلطة الكنسية وأهمية الحدث. وكذلك خدمة زيارة المرضى تستلزم حضورا فعليا لتجسيد التعاطف والمحبة.
- التحدي الخامس: رسامة الخدام تتطلب وضع الأيدي وحضورا فعليا. فالكنيسة الافتراضية لا تستطيع أن تضمن مصداقية الخدام دون التواجد الفعلي والتفاعل الشخصي معهم.
لا شك أن الكتاب المقدس يدعونا بصورة واضحة إلى اللقاء معا كأتباع السيد المسيح. ولكن ما هدف هذا اللقاء؟ ولماذا يجب أن نحافظ على تواصل أتباع المسيح في الكنيسة المحلية. ثمة عدة أسباب لإقامة اللقاءات الكنسية وجها لوجه. سأقوم بسردها بعضها.
أولا، اللقاء الكنسي معا ضروري للوعظ والتعليم وللصلاة معا. وهو ضروري أيضا لكسر الخبز والتفاعل الإنساني الذي يسعى إلى تشكيل القلب والتمثل بالمسيح. وهذا ما نراه بوضوح في أعمال 2: 42.
ثانيا، الاجتماعات الكنسية لها بُعد إرسالي وراعوي. فعندما نحضر إلى الكنيسة نستطيع أن نُساهم في خدمة الأرامل والفقراء والمظلومين بواسطة الصلاة والعطاء. العطاء المالي قسم مهم من العبادة الكنسية المشتركة. والعطاء ضروري للقيام بالأعمال الحسنة باسم المسيح ولامتداد ملكوت الله. ومهم أيضا للتعبير عن خضوعنا لله وتضحيتنا وثقتنا بأنه يعتني بنا ويستخدمنا لمجد اسمه. والعطاء مهم أيضا للحفاظ على خدام الكنيسة كي يعيشوا بكرامة. فهذه وصية الله لنا. وعندما نمتنع عن ممارسة العطاء فإننا نضر البُنية الإدارية لمؤسسة الكنيسة. ونضر أيضا الحياة الروحية إذ نحرم خدام الكنيسة من الموارد التي يحتاجونها ونحرم الفقراء والأرامل والمظلومين من هذه الموارد ونحرم أنفسنا من خدمة العطاء والكرم المسيحي. طبعا، هذا الأمر من الممكن أن نعالجه في الواقع الافتراضي بواسطة العطاء الإلكتروني.
ثالثا، الاجتماعات الكنسية ضرورية لبناء الصداقات والتلمذة. فالعلاقات العميقة والحميمة تحتاج إلى تفاعل وجها لوجه وليس تفاعلا افتراضيا لفترة زمنية محدودة وبطرق تخلو من اللمس والشم واللقاء. والتلمذة والتغيير العميق يتطلب علاقة عميقة. والشركة الروحية تفتح الأبواب أمام تمجيد المسيح بمواقفنا وكلماتنا وسلوكنا. فتصبح حياتنا صلاة ونموذجا للأحداث. ومن الضروري أن نأخذ الشباب والصبايا إلى جماعة المسيح ليشاهدوا ويتعلموا كيفية الحياة المسيحية ومفرداتها وتفاصيلها. فلا نستطيع أن نتعلم ونمارس المحبة المسيحية عن بُعد بل يجب أن نتفاعل معاً فنختبر الغفران والمسامحة والصبر والتضحية وغير ذلك. فيجب أن نكون قدوة للمؤمنين في الكلام، في التصرف، في المحبة، في الروح، في الإيمان، وفي الطهارة (1 تيم 4: 12). ويجب أن ندرب أولادنا من خلال الاجتماعات على معرفة الرب إذ يطلب منا الله أن نربي أولادنا وبناتنا بتأديب الرب وإنذاره (أف 6: 4). ولا نستطيع أن نفعل هذا الأمر بدون أن نجعلهم جزءا فعّالا من الكنيسة واجتماعاتها.
في ضوء ما سبق، ماذا يجب علينا فعله؟ أولا، يجب أن تلتزم الكنيسة بمفهومها عن طبيعة وهوية وشهادة الكنيسة. فالجانب الملموس جزء لا يتجزأ من ممارسات الكنيسة وتاريخها وهويتها ودعوتها. وأتجرأ وأقول إن الجانب الملموس للكنيسة هو امتدادٌ للاهوت التأنس والتجسد. فبدون تجسد الكنيسة وتلامسها مع حاجات المجتمع لن تستطيع أن تساهم في امتداد ملكوت الله. ثانيا، التزامنا بلاهوت كنسي متجذر في مفاهيم كلمة الله واللاهوت التاريخي عبر العصور لا يُلغي قيامنا بخدمات افتراضية عبر الشبكة العنكبوتية. ولكننا يجب أن نجعل هذه الخدمات جزءا من الخدمة الكنسية وليس بديلا عنها. ثالثا، في ضوء الظروف الحالية والقوانين الحكومية، يجب أن نطور الخدمات الافتراضية فنسمح بخدمة العطاء الإلكتروني ونشجعه ونسعى إلى تطوير لقاءات في مجموعات صغيرة لتطوير روحانية أكثر عمقا. رابعا، إن عدم المواجهة المباشرة بين الدولة والكنيسة لا يعني أن الكنيسة مُعفاة من التفكير الجدي في القضايا التي تثيرها الدولة لا سيما إن كانت هذه القضايا أخلاقية أو لها بعد يؤثر على الحياة الكنسية. فعلى سبيل المثال، فرضت الإمبراطورية الرومانية عبادة الإمبراطور على كل مواطني الإمبراطورية وليس على الكنيسة فحسب إلا أن الكنيسة تحدت هذا الأمر لأنه يتعارض مع مبادئها. وربما تفرض الحكومة قانونا عن الإجهاض لكل سكانها ولكن الكنيسة ملزمة أن تُصغي أولا لله ولكلمته المُعلنة في الكتاب المقدس قبل طاعتها للحكومة حتى عندما تكون القوانين عامة ولا تستهدف الكنيسة بشكل خاص. الطاعة العمياء لقوانين الحكومة تتعارض مع اللاهوت المدقق. في ذات الوقت، تحدي الحكومات بعشوائية يتعارض مع الحكمة المسيحية والإيمان القويم. ولهذا علينا أن نفحص الأمور بالصلاة والإيمان المفكر والحوار لنخدم كنائسنا ومجتمعنا في عصر الكورونا. يا رب ارحم!