في آخر إشارة للتراجع الفلسطيني والعربي, عاد الاستعمار الديني المسيحي للقدس من بوابة تعيين بطريرك إيطالي لبطركية اللاتين في القدس لا يتكلم اللغة العربية ويتقن اللغة العبرية.
في الوقت الذي تتسارع الدول العربية إلى التطبيع مع إسرائيل أعلم الحبر الأعظم الرئيس محمود عباس في مكالمة هاتفية الخميس عن نيته تعيين المدبر الرسولي بيربتيستا بيتزابيلا كبطريرك دائم في القدس لبطركية اللاتين التي تشمل رعاياها فلسطين والأردن وإسرائيل وقبرص.
إعلان الفاتيكان جاء مخالفاً للتقليد المتبع في كافة أنحاء العالم وهو إعطاء أولوية لرجال الدين المحليين من مطارنة وخوارنة والتشاور ضمن ما يسمى كونسالتيا consultia مع كبار شخصيات الكنيسة الكاثوليكية في المنطقة.
ورغم أن القانون الأردني يفرض على بطريرك الروم الأرثوذكس أن يتحدث اللغة العربية وأن يكون حاملاً جواز سفر أردني، إلا أن الأمر نفسه لا ينطبق على باقي الكنائس.
يبدو أن للفاتيكان مبررات في قرارها. فالوضع المالي للبطركية بسبب الخسارة الكبيرة التي تكبدتها في إقامة الجامعة الأمريكية في مادبا قد يكون أحد تلك الأسباب. إلّا أن البعض يصر أن هناك أطراف من نفس الفاتيكان كان لهم ضلع فيما حدث، وقد تكون إحدى الدلالات على ذلك وجود قضية مالية بعشرات الملايين مرفوعة في ولاية كاليفورنيا الأمريكية ضد كاردينالات في إيطاليا وبيتسبيلا نفسه إضافة إلى البطريرك السابق وعدد من المطارنة العرب في فلسطين والأردن.
الغريب في الأمر أنه رغم وجود عدد كبير من الخوارنة العرب المثقفين والمطارنة الذين يتم إرسالهم من قبل الفاتيكان لدول مختلفة في آسيا وأفريقيا، لم يجد الفاتيكان أي منهم لهذا المنصب في القدس. الأمر المحزن هو أن قرار الفاتيكان يعكس نظرة أوروبية فوقية تتعامل مع العرب بصورة نمطية بحيث أنه إذا كان لديهم تجربة سيئة مع شخص واحد يتم اتخاذ موقف من الكل.
كان قد تعين بيتسابيلا بشكل مؤقت كمدبر رسولي لمعالجة المشكلة المالية التي وصلت ديونها الى مئة مليون دولارحيث قام ببيع أراضٍ تجارية في منطقة الناصرة كجزء يصل إلى 60% من الدين (حسب أقوال بيتسابالا). ويبدو أن الفاتيكان قرر مكافأة المدبر المطيع بهذا المنصب الذي يصعب، إن لم يكن شبه مستحيل، إزالته إلا باستقالته أو تقاعده رغم أنه نسبيا صغير في العمر إذ أنه من مواليد عام 1965، مما يعني أنه سيكون مسؤولاً عن طائفة اللاتين في المنطقة لمدة 15 سنة حتى يبلغ سن التقاعد الرسمي.
المعروف أن الفاتيكان قام بدفع مئات الملايين لمعالجة قضايا تحرش جنسي من قبل بعض رجال الدين الكاثوليك في العديد من دول العالم، فهل كان صعب على خزينة الفاتيكان مساعدة بطركية القدس في قضية مالية تعتبر صغيرة نسبياً مقارنة مع الوضع المالي لدولة الفاتيكان؟
طبعا لا شك أن مشاكل الطائفة اللاتينية المالية سببت انشقاقات وتحزبات كان أهمها مؤخراً اللجنة التي اعترضت على بيع أراضي الناصرة وقدمت العديد من الاحتجاجات. كما ولا شك أن غياب التنسيق الفلسطيني الأردني في هذا الموضوع ترك الأمر للفاتيكان لأخذ الخيار المريح وهو استمرار عمل بيتسابالا ولكن الآن بمنصب أعلى غير قابل للتغيير.
القرار الأخير يجب أن يعيد الاهتمام الحكومي الفلسطيني والأردني لموضوع الاستعمار الديني وضرورة وضع تشريعات ملزمة تفرض أن يكون البطريرك من المنطقة ومن الرعية وعلى أقل تقدير يتحدث اللغة العربية.
الأمر الغريب أنه رغم التمسك غير المبرر لحكومتنا بقيادة دينية من خارج منطقتنا لبعض الطوائف، يستمر التلميح والتشكيك في كنائس بروتستانتية رغم أن قياداتهم تعكس جنسية رعيتهم ولا تتبع لسلطة مركزية أجنبية. الكنيسة اللوثرية والأسقفية كما الكنائس الإنجيلية تدار كلياً من رجال دين فلسطينيين وأردنيين ولهم كامل الاستقلالية الإدارية والمالية. طبعا قد يكون الوضع اللاهوتي والإداري للكنائس البروتستانتية عاملاً مساعداً حيث هناك نسبة عالية من الاستقلالية واللامركزية والحكم الذاتي للكنائس ودور قانوني أكبر للرعية في اختيار قيادتها، الأمر غير المتوفر بنفس الطريقة لدى بعض الكنائس التاريخية.
إن ما جرى في الفاتيكان اليوم من تعيين إيطالي ليخلف أردني وفلسطيني هو أمر سلبي وعنصري ولكنه أيضاً يعكس تراجع قوة العرب، الأمر الذي يفرض علينا التفكير الجاد في إعادة هيكلة أمورنا الدينية كي تعكس أهدافنا وحقوقنا في أوطاننا.