نشرت مؤخرا مجلة (Christianity Today - المسيحية اليوم) في عددها الصادر لشهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2020، تقريراً مطولاً عن تاريخ المحاولات لتأمين الضمان الصحي لجميع السكان في الولايات المتحدة الأمريكية. ولقد كان التقرير صادماً بالنسبة لموقف الأصوليين الإنجيليين في أمريكا. ويؤكد التقرير في البداية أن الجميع بمن فيهم الأصوليون اعترفوا بأهمية إصلاح التأمين الصحي لكي يشمل الجميع. وذكر أن محاولات الرئيس السابق بيل كلينتون لعرض مشروع تأمين صحي يشمل الجميع في عام 1994 قد باءت بالفشل. ويعزو التقرير السبب إلى وقوف الأصوليين الانجيليين ضده. وذكر أن الواعظ المسيحي الأصولي المشهور بات روبرتسون، وهو رئيس ما يُسمى بالتحالف المسيحي، عمل جاهداّ ضد هذا المشروع، وأنفق مبلغ مليون وأربعمائة ألف دولاراً لوقفه. وفي عام 2010 عندما أعلن الرئيس باراك أوباما مشروعه لتأمين الضمان الصحي للطبقات الفقيرة، وقف أيضاً الأصوليون الانجيليون ضده بشدة ولأسباب غير جوهرية. وأشار التقرير إلى دراسة نُشرت عام 2019 تكشف عن موقف الطوائف والفئات المختلفة من هذا المشروع، وأتت النتيجة صاعقة أيضاً. إذ تبين أن 8,23% فقط من الانجيليين البيض يؤيدون هذا المشروع، مقابل 8,84% من البروتستانت السود، و2,66% من الهيسبانك الكاثوليك، و40% من كنائس البيض البروتستانتية التقليدية. إلى هنا انتهى الاقتباس من التقرير.
لعل الأمر المستغرب جداً والمستهجن في هذه الدراسة هو موقف الانجيليين البيض الأصوليين. إذ كانوا في أدنى مرتبة من تأييد الضمان الصحي للملايين من الأمريكيين من الطبقات الفقيرة، مع أنه كان من المفروض أن يكونوا على رأس المؤيدين، كإنجيليين يدعون للتمسك بمبادئ الإنجيل في العدالة والرحمة وانصاف المظلومين. أما الأسباب التي وضعت فكانت لا تستحق برأيي أن يُرفض المشروع كمشروع إنساني يهدف لمساعدة الملايين من الناس المحتاجين.
وهنا يأتي السؤال: لماذا يقف الانجيليون الأصوليون هذا الموقف السلبي المستهجن؟ برأيي توجد عدة أسباب لذلك، يأتي على رأسها: اندماج الانجيليين في النظام الرأسمالي الحر، إلى درجة أبعدتهم كثيراً عن مفاهيم ومبادئ الانجيل بالعدل والرحمة. وأصبحت مسيحيتهم ترتبط بمفاهيم وقيم المجتمع الرأسمالي، وعلى رأسها حرية الفرد الكاملة ولو على حساب باقي أفراد المجتمع. فعلى الفرد أن يختار بملء إرادته ما هو نوع الضمان الصحي الذي هو بحاجة إليه، وأن يدبّر الموضوع بحرية وبدون أي تدخل من الحكومة. مع العلم أن هذا الوضع أدّى إلى فقدان الملايين من الناس لأي ضمان صحي لعجزهم عن تأمينه. والذي زاد الطين بلّة كما نقول، أن لسان حال هؤلاء الأصوليين هو أن عملية الخلاص المسيحي بالنسبة لهم هي قضية فردية، وقد انعكس مفهومهم الفردي هذا على مجالات الحياة الأخرى كالتأمين الصحي مثلاً، الذي أصبح من مسؤولية الفرد توفيره.
ووصل هذا المفهوم إلى درجة أنني قرأت مؤخراً ما كتبه أحدهم، أنه لا يقبل أن تذهب أموال الضرائب التي يدفعها إلى مساعدة العاطلين عن العمل، أو إعاشة المحتاجين. مع العلم أنه لا يحتج أبداً أن تذهب أموال الضرائب التي يدفعها إلى زيادة ميزانية وزارة الدفاع ومشاريع التسلح الباهظة. أو إلى تكاليف شن الحروب على الشعوب الأخرى.
إذاً عندنا هنا مشكلة جوهرية هي فقدان البوصلة الحقيقية التي تساعد هؤلاء الانجيليين الأصوليين على العودة إلى مبادئ الانجيل الأساسية في العدل والرحمة. ولهذا نراهم يتمسّكون بقضايا أخرى كقضية الاجهاض مثلا، ويحاربون من أجلها بكل قوة. ومع أهمية هذه القضية، لكنهم في نفس الوقت لا يعيرون التفاتاً إلى قضايا العدل والرحمة والسلام. وعلى ذكر السلام، فإن هؤلاء الانجيليين الأصوليين كانوا من أشد الناس تأييداً للحروب التي شنت على الشعوب الأخرى، بحجج واهية. وكانت نتيجتها موت مئات الألوف من البشر. علاوة على ذلك فإن الأصوليين يؤيدون الاقتناء الفردي للسلاح، الذي أدّى إلى حوادث عديدة، راح ضحيتها المئات، وخاصة من أولاد المدارس. هذا عدا عن تأييدهم الكامل والمطلق لإسرائيل ومشاريعها الاستيطانية. وهنا يتضح لنا أنه يوجد تناقض واضح بين موقف هؤلاء الانجيليين ومبادئ الانجيل. ويصح فيهم قول المسيح لفرقة الفريسيين في أيامه: «تركتم أثقل الناموس الحق والرحمة والإيمان. كان ينبغي أن تعملوا هذه ولا تتركوا تلك»(بشارة متّى23:23ب).
إن هذا الأساس الذي انطلق منه هؤلاء الأصوليون جعلهم يتبنون أيضاً موقف اليمين السياسي والاجتماعي بالنسبة لكل القضايا الاجتماعية والثقافية للمجتمع. لهذا نراهم يحاربون أيضاً بشدة أية برامج حكومية لمساعدة الناس المحتاجين في شؤونهم الاجتماعية والثقافية، كالتعليم مثلاً، وزيادة حصص المعونات للفقراء. والجدير بالذكر أن تبنيهم لموقف اليمين أدّى بهم أيضاً إلى هروبهم من معالجة مشكلة التمييز العنصري في المجتمع ، لا بل عدم الاعتراف بوجودها أصلاً.
ليساعدنا الرب في هذه الأيام العصيبة لكي نرى الحقائق كما هي، ولا نحاول تغطيتها بحواجز وأوهام بنيناها لأنفسنا، وأصبحت تقيدنا وتبعدنا عن معرفة الحق الكتابي السليم. فيا ليتنا نعود إلى جادة الصواب، إلى مبادئ الإنجيل الصحيحة في العدل والرحمة والسلام ومساعدة المظلومين.