هزّت ثلاثة حوادث، أخيرا، أسس التعايش والتفاهم الديني في فلسطين، ولكن نظرة معمّقة ستدل أن الصراع الطبقي (والوضع الاقتصادي السيئ) هو المحرّك الرئيس لهذه الأحداث المؤسفة، المختلفة وفي أماكن فلسطينية متفرقة، المشترك فيها أنها حدثت في فترة الأعياد الميلادية المجيدة، وفي أثناء الإغلاقات والتشنجات التي سبّبتها فاجعة كورونا.
أصدرت دائرة الوعظ والإرشاد في وزارة الأوقاف (الحمساوية) في غزة توجيهاتٍ للوعاظ بشأن كيفية توعية الوعاظ المسلمين بمناسبة احتفالات "الكريسماس" للمسيحيين. وفي مدينة سخنين، الجليلية داخل الخط الأخضر، أحرق مجهولون شجرة عيد الميلاد المضاءة أمام كنيسة الروم الكاثوليك والأرثوذكس في هذه المدينة التي اشتعلت فيها شرارة يوم الأرض عام 1976. وثالثهما تدخل شبّان من أريحا لوقف احتفال موسيقى، قيل إنه صاخب في منطقة مقام النبي موسى، والتي تضم مسجدا وأماكن دينية وسياحية، في الموقع نفسه بين القدس وأريحا، والذي كانت للمستوطنين محاولات عديدة لاقتحامه. وعلى الرغم من ارتفاع أصوات المنتقدين، وتراجع سلطة حركة حماس في غزة، نوعا ما، في ما يتعلق بالبيان التحريضي، وإعلان رئيس الوزراء الفلسطيني، محمد اشتية، تشكيل لجنة تحقيق بما حدث في مقام النبي موسى، إلا أن ذلك كله لا يلغي وجود مشكلات أعمق بكثير من ذلك، إذ لا يمكن علاج تلك المشكلات بالتراجع هنا، وإصدار تقرير هناك.
يتعلّق جزء من المشكلة بخطابٍ ديني يحتوي على تحريض ورفض قبول الآخر، فمثلا استخدام كلمة "كريسماس" بدلا من كلمة عيد الميلاد تعكس محاولةً مبطنة لربط مسيحيي فلسطين بالغرب الداعم لإسرائيل والصهيونية، مع أن مسيحيي فلسطين هم رأس الحربة التي تكشف زيف الصهيونية المسيحية، ومحاولاتها تبرير الاحتلال والاستيطان بتزييف واضح للكتاب المقدّس. ولكن المشكلة أوسع من ذلك، فلها انعكاسات طبقية. مثلا ما سر الهجوم على مسيحيي قطاع غزة، وعددهم لا يتجاوز الألف، فيما يقترب عدد سكان القطاع من مليونين؟ يعتقد بعضهم أن غالبية من تبقّوا في فلسطين من المسيحيين هم أصحاب المال من ملاك وأصحاب مصانع وشركات وغيرها، الأمر الذي ينعكس بصورة كبيرة في فترات الأزمات الاقتصادية إلى عداء طبقي. ومع أن أصحاب العمل والملاكين ليسوا فقط المسيحيين الفلسطينيين، إلا أن هؤلاء الفئة الأضعف والأسهل مهاجمتها.
وكان بابا الفاتيكان، فرنسيس، قد دعا إلى مساعدة الفقراء والمحتاجين الذين زاد عددهم بعد تفشّي فيروس كورونا المستجد. وقال خلال ترؤسه قدّاسا عشية عيد الميلاد، مساء الخميس، إنه "على الناس أن يشعروا بأنهم ملزمون بمساعدة المحتاجين، لأن السيد المسيح نفسه ولد فقيرا مبعدا". وأضاف الزعيم الروحي للكاثوليك "عيد الميلاد يجب أن يجعل الجميع يفكّرون في ظلمنا تجاه كثيرين من إخوتنا وأخواتنا، بدلا من السعي وراء رغبتنا التي لا تنتهي في الحصول على الممتلكات والمتع الزائلة".
وبرزت في هذه الأحداث الفجوة الكبيرة بين القدس وأريحا، وبين كبار السن والشباب. وقد تجلّى الأمر في قرارات الحكومة الفلسطينية غير الواضحة، في ما يتعلق بالتنقل بين المدينتين، حيث تم أكثر من مرة منع المقدسيين دخول أريحا بسبب الإجراءات الاحترازية، على الرغم من أن أريحا تعتبر المتنفس للمقدسيين، حيث يملك كثيرون منهم منازل وشققا في أريحا التي تعتبر مشتى فلسطين. وقد أحدث منع التنقل غضب المقدسيين وشعورا بأن القيادة الفلسطينية لا تهتم بهم، على الرغم من ادّعائها ذلك في البيانات والمواقف الرسمية.
لقد زاد شعور المقدسيين بالغربة، فمن ناحية وضع بعضهم الاقتصادي أفضل من إخوتهم في باقي أنحاء الضفة الغربية. ومن ناحية أخرى، هناك شعور اغتراب مع باقي الفلسطينيين. وفيما انتماء المقدسيين لفلسطين واضح، إلا أن الطبقة الشابة تعيش حياة غربة وانفصال عن الواقع الحياتي الفلسطيني، ما جعل فكرة الاحتفال الصاخب في مقام النبي موسى حدثا ذا جاذبية، في حين شكّل الاحتفال سبب غضب الشباب من أريحا، الممنوعين من دخول القدس، وهم يعانون من مضايقات صحية، تأتي بأوامر من رام الله. فيصير تعبيرهم الداخلي متعلقا بسبب حرمانهم من التحرّك في حين أن للمقدسيين الحق في الاحتفال بدون تباعد جسدي، وغيرها من الأوامر الصحية.
وفي سخنين، شكّلت زيادة قوة "اليمين الإسلامي"، والتحريض الداعشي المتواصل في وسائل الاتصال الاجتماعي، القاعدة التي ربما انطلق منها المحرّضون الذين أحرقوا شجرة العيد. ولا شك أن دعوات متطرّفين في فلسطين وغيرها إلى المسلمين إلى عدم معايدة إخوتهم المسيحيين عاملا إضافيا لهذا التحريض، والذي انعكس على هذا العمل المشين.
تلك الأحداث، مجتمعة ومنفصلة، تدلّ على محاولة خاطئة لتغليف صراع طبقي بفتنة دينية. كما تعكس الفراغ الفكري، والذي يقابله تحريضٌ مستمر من جهاتٍ مُغرضة في محاولة كسر التعايش الحقيقي والمستمر منذ قرون بين أبناء الشعب الواحد. حسناً فعل من تحرّك وصرّح وعبر عن رفض المجتمع والقيادة الفلسطينية هذا الأمر، ولكن المطلوب عمل أعمق وأقوى من ذلك بكثير... هل من خطة استراتيجية لمنع تكرار مثل هذه الأحداث المؤلمة، ورفض ربطها بالأمور الدينية؟-
عن العربي الجديد