أكثر ما أزعجني في المشاهد المزعجة لهجوم الرعاع على أحد مراكز السلطة الرئيسيين في واشنطن هو لافتة كتب عليها "يسوع 2020"، علّقها كما يبدو أحد افراد الهجوم غير المسبوق قرب درج الكابيتول. ولقد عكست هذه اللافتة الارتباط الوثيق بين بعض الانجيليين البيض في أمريكا وبين الفئة المناصرة للرئيس ترامب وحتى اكثرها غيظاً وتعصباُ. طبعاً سيكون للهجوم الارعن (وهو قمة مؤسفة لمسلسل ولاية ترامب) إسقاطات على الحزب الجمهوري وعلى نظرة العالم للديمقراطية في أمريكا وعلى النسيج الاجتماعي فيها وغيرها. لكن ما يهمني التطرق اليه بعجالة هو اسقاطات ذلك على الانجيليين البيض الذين دعموا ترامب، وبالنتيجة- تأثير ذلك على رسالتهم الروحية لأجل المسيح. الامر يتخطى مجرد حدود رسالة الكنيسة في أمريكا، انما يصل لأرجاء العالم بسبب الارساليات الكنسيّة والارتباطات مع كنائس حول العالم وحتى لمجرد التأثير السياسي والاقتصادي والثقافي والديني الهائل لأمريكا كدولة عظمى على العالم.
ومن الضروري التشديد ان ليس كل الانجيليين في امريكا يدعمون ما عمله اتباع ترامب المتشددين في واشنطن أمس. فاغلب الانجيليين من غير البيض حتى لا يدعمون الحزب الجمهوري. وحتى بين الانجيليين البيض – فهناك فئة تدعم المرشح الديمقراطي وحتى بين داعمي الجمهوريين فان الكثير يتحفظون من التصرفات الهمجية أمس. طبعاً للإنجيليين حول العالم- وبضمنهم في بلادنا- مواقف متباينة حول المواضيع ذات الصلة.
ان ما سآتي به في هذا المقال يتطرق للإنجيليين الذين دعموا ترامب وليس لآخرين.
باختصار وبتعميم ما- دعمت فئة من الانجيليين الرئيس ترامب لرفضهم للمنحى الليبرالي المتطرف الذي سارت فيه البلاد. تمثل هذا في شرعية متزايدة لأسلوب الحياة المثلي وللمتحولين جنسيا وتشريع لقانونية زواجهم وحقوقهم. كما دعموا ترامب لأنه وعد بتعيين قضاة محافظين في المحكمة العليا وهي طبعاً محكمة دستورية تفسر دستور البلاد في مسائل حساسة مثل الإجهاض والحرية الدينية بطريقة تدعم مواقفهم. لم يكتفِ ترامب بذلك، بل منح إسرائيل –حبيبة الانجيليين- دعماً غير مسبوق بنقل السفارة الامريكية للقدس والاعتراف بضم هضبة الجولان لإسرائيل والسعي لاتفاقيات سلام وتطبيع بين إسرائيل ودول عربية مقابل بيع سلاح متطور وامتيازات اقتصادية لهذه الدول.
لقد تجاهل هؤلاء الانجيليين أسلوب حياة ترامب الشخصي ونرجسيته وبذاءته. لم يقتصر ذلك على اسلوبه فقط بل على جوهر بعض مواقفه (مثل كراهيته للمكسيكيين والمسلمين والمعاقين) - التي تتعارض كلها مع روح الانجيل.
ببساطة برر كثيرون منهم دعم مرشح ورئيس من هذا النوع: أن الغاية تبرر الوسيلة. هدف وقف المد الليبرالي المتحرر يبرر القيام بذلك على ظهر رئيس حتى لو عارضت شخصيته مبادئ الانجيل. اتخذ هؤلاء الانجيليين الداعمين لترامب نموذج الملك الفارسي كورش في العهد القديم مثالا لقائد غير مؤمن يدعم ويساعد شعب الله. قام كورش بدعم وتسهيل لبناء الهيكل في اورشليم وانهاء الجلاء في بابل.
لا بد من الإشارة لبعض الاستنتاجات التي ممكن ان نعتبر منها:
1) اثر الأذى الذي الحقه ارتباط الانجيليين في ترامب لرسالة الانجيل، لربما ينادي البعض باتخاذ موقف متطرف آخر وهو الانعزال عن الحياة العامة والعزوف عن اتخاذ دور فيها. ان هذا خطأ من نوع آخر يفضي الى نتائج وخيمة اذ يجعل الكنيسة خارج اللعبة وبعيداً عن دائرة التأثير. لا بد من توازن تحكمه كلمة الرب والعقل السديد.
2) من الخطأ تجاهل الاخلاق وملامح شخصية الانسان على مذبح غايات وسياسات معينة. إذا ارتبط اسم المؤمن صاحب الرسالة باسم زعيم ماجن او نرجسي فان الامر ينعكس عليه وعلى ما ينادي به. بالتّالي يُهزأ باسم المسيح من جراء المس بصورة الرب في اتباعه ومن يرتبط بهم هؤلاء الاتباع. سيستصعب الانجيليون الذين دعموا رئيسًا تتناقض حياته مع رسالة الانجيل اقناع الناس برسالة نفس ذلك الانجيل. سيقول المتفرج: إذا اعتبرت رسالة الانجيل ليست بذي اهمية حتى أطالب من ادعمه سياسيا بالتوافق معها، فهي كما يبدو غير هامة.
3) علاقة الكنيسة بالدولة هي علاقة حساسة وقد شهدت مداً وجزراً خلال القرون. وقد تبرهن انه اذا ما طأطأت الكنيسة رأسها امام الدولة وجنت منها أرباح معنوية او ماليًا او علاقاتية فإنها تكون قد وقعت في الفخ. لقد اثبت التاريخ مرارًا وتكرارًا ان رجال الدين الذين اعتادوا على حياة أروقة السلطة والتشريفات والعلاقات العامة- سيعتادون على بريقها ويستنشقون عبيرها فيدمنون عليه. لن يفلحوا بالإقلاع عنها، اذا أرادوا ذلك اصلاً، بالنتيجة ستتلطخ رسالتهم. سيجدون الاعذار لاستمرار علاقتهم الوطيدة بالسلطة وان اضطرهم الامر لمساومات إضافية.
4) حصر الاهتمام الإنجيلي في أمريكا بمسائل الهوية الجنسية او "العفة" ووضعها في مرتبة اعلى من العنصرية والعدل والمساواة هو قصر نظر ويودي لما سيراه الناس كرسالة مبتورة للانجيل. طبعاً مواضيع الاهتمام المذكورة هامة للغاية لكنها ليست يتيمة بل يتوجب النظر بشمولية للمواضيع التي في قلب الرب.
5) كيف يخفت صوت الكنيسة النبوي الذي ينادي بوقف التوجهات الظالمة للقوي المتمثل بالسلطة. ان اصطفاف الكنيسة مع السلطة واتخاذها لموقف التملق والتزلف هو مؤشر لبهتان لونها وتخفيف رسالتها. يتوجب ان تأخذ الكنيسة دورها كملح يحفظ من الفساد وتضيئ كنور للمجتمع (وعلى رأسها السلطة) فيرى جيداً الطريق الذي يتوجب ان تسلكه.
6) تزامنت ولاية ترامب في أمريكا بالجائحة وبهذا الحلف الاخرق ازدهرت ظواهر الاخبار الكاذبة (Fake News ) التي منبعها الجهل. وقد تبنى كثير من داعمي ترامب وبضمنهم الانجيليين الكثير من هذه الأكاذيب مع العلم ان ترامب هو أحد المروجين الرئيسيين للأخبار الكاذبة. فاعتبروا مثلا الجائحة ككذبة اختلقها الصينيون فادى الامر لأكثر من 21 مليون مصاب بالعدوى وأكثر من 370 الف ميت منها. اعتقد ان العبرة من ذلك هي ضرورة احتكام العقل والحذر من اتباع رؤساء ذوي اخلاق متدنية اذ بوسعهم تضليل الكثيرين.
7) قام ترامب بمهاجمة الصحافة التي اعتبرها ناشرة للأخبار الملفقة والكاذبة. وشكك بالمحاكم التي رفضت ستين اعتراضا قدمه على نتائج الانتخابات الأخيرة، حتى من قضاة عيّنهم ترامب نفسه. وحتى قوّض شرعية السلطة التشريعية (مما أدى لهذا الهجوم البشع عليها). اعتبر ترامب كل المؤسسات القائمة التي يعتمد عليها النظام الديمقراطي بالكذب وقلل من شأنها وللأسف لحقه كثير من الانجيليين. اعتقد ان واجبنا كإنجيليين هو اطاعة السلطة والقانون كما ينادينا بولس الرسول في رومية 13. وبالمعنى العصري لذلك هو ليس اطاعة عمياء لرئيس فاقد الكوابح والأخلاق وانما احترام ودعم المؤسسات الديمقراطية في الدول التي نسكن بها.
"هل ستقوم هذه الفئات الانجيلية التي دعمت مثل هذا الرئيس من حضيضها فتتوب عن طرقها وتعود لرشدها ومعها يرتفع شان انجيلها؟"