كنا قد تحدثنا في المقال السابق عن الاضطهاد والظلم الذي لاقاه فادينا يسوع على طول مسيرة حياته على الأرض، وكيف أحرز النصر على الرغم من كل ذلك، وطرحنا سؤالا: لو واجهنا نحن، الذين قبلنا المسيح ربا ومخلصا على حياتنا، نفس أنواع الاضطهاد والظلم، بدرجاته المتفاوتة، هل سنحقق النصر في نهاية المطاف كما حققه سيدنا ومثالنا الأعظم يسوع، الذي ينبغي أن نتمثل به ونتبع خطواته ونحتذي حذوه.
محاولة الإجابة على ذلك متعلقة كثيرا بكيفية تصرفنا حيال هذا الظلم ومواجهتنا له، وبالتالي فعلينا إيجاد نقطة الاتزان للتعامل الصحيح والحكيم المقرون بعمق معرفة كلمة الله الممتزجة بالحكمة التي يمنحها الروح القدس. في هذا الصدد نؤكد أن الله يطالبنا بمزيج المعرفة والحكمة، ليست البشرية إنما النازلة من فوق من عند أبي الأنوار، ويسوع يوبخ الصدوقيين على أنهم يضلون إذ لا يعرفون الكتب ولا قوة الله. معرفة الكتب بدون قوة الله وروحه وحكمته سوف تجعلنا ناموسيين وعاجزين عن إسداء الحلول للظروف الصعبة التي تواجهنا، وبالتالي إيضاع نقطة الاتزان.
الصعوبة تتعقد أكثر بالذات أن أحداث الكتاب المقدس جرت منذ آلاف السنين والكثير الكثير من الظروف والعادات والأنظمة تغيرت والعلم تطور جدا، مما يجعل عملية "التطبيق" شبه مستحيلة. إن إيجاد نقطة الاتزان ليس بالأمر السهل ولكن ليس مستحيلا، ففي كل حالة نواجهها نحتاج ان ندرس القيم المتضاربة في كل ظرف، فاعلين ذلك في ضوء كلمة الله التي وضعت الخطوط العريضة لإيجاد الحلول والتعامل مع الأزمات والضيقات والاضطهادات بحيث تتلاءم مع تطورات العصور والمجتمعات وإدراك جيد وصحيح للواقع الذي نعبشه وتشهده أيامنا.
لإيضاح الصورة في بحثنا عن نقطة الاتزان نأتي بمثال بسيط من الكتاب المقدس، قصة معروفة مأخوذة من سفر دانيال الإصحاح الثالث، قصة الفتية الثلاثة شدرخ وميشخ وعبدنغو التي حدثت في بابل في فترة سبي شعب إسرائيل، الذين كانوا مملوئين بكل حكمة وفهم، الذين عملوا في قصر الملك بعد أن عينهم ولاة في المملكة (الإصحاحين الأول والثاني من سفر دانيال)، وكانوا خاضعين أيضا لأحكام المملكة وقوانينها. في خضم نجاح هؤلاء الفتية، يأتي يوم الذي أراد فيه الملك أن يحتفل بتدشين تمثال ذهب كان قد بناه، فيأمر نبوخذ نصر كل الأمم والشعوب في المملكة أن يسجدوا لتمثال الذهب. القيم المتضاربة هنا هي أمر الملك بالسجود لتمثال الذهب – القانون، من ناحية، وإطاعة وصية الله أنه "للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد" من الناحية الأخرى.
لقد أدرك الفتية الثلاثة أن أمر الملك ما هو إلا خرق مباشر لكلمة الله وعبادته وحده ولا آخر سواه، وتيقنوا أن طاعة أمر الملك في هذه الحالة ما هو إلا "تخطي للخط الأحمر"، فما كان منهم إلا أن يرفضوا الخضوع لأمر الملك، الأمر الذي أدى إلى طرحهم في أتون نار محرقة محماة سبعة أضعاف، ونعلم كيف أكرمهم الله ونزل في وسطهم وحماهم وأنقذهم من قيضة إبليس، فتمجد إسم الرب.
بينما نحن نفتش عن نقطة التوازن امام تلك القيم المتضاربة، وبالإضافة الى ما ذكرنا أعلاه، حري بِنَا ان نفعل ذلك في إطار محبة الله وعدله، وكذلك بدون مساومة على الحق الكتابي، متذكرين دائما ان الغاية لا تبرر الوسيلة، فلا يجوز ان أصل الى ما اريد انا على حساب كلمة الله، بل ان أصل الى النتيجة - نقطة التوازن، بحسب ما تمليه كلمة الله، حتى وان كانت الغاية لا تروق لي او لقناعات معينة متغلغلة في افكاري، لربما كنت قد استقيتها من البيئة التي نشأت فيها او أفكار مسبقة لم اتشربها من كلمة الله، او نماذج اتخذتها من الحكمة الارضيّة العلمانية بمعزل عن كلمة الله.
معرفة كلمة الله: كما ذكرنا، معرفة كلمة الله هي احد الأساسات المهمة الذي نستند عليه لإيجاد نقطة التوازن حيال القيم المطروحة، وهذا برأيي امر لا جدل فيه. المشكلة تكمن عندما ناتي لنفسر مقطعا كتابيا ونطبقه على الاشكالية التي تواجهنا، وهنا قد تتعدد الاّراء وسوف نقع في مأزق قد يضيع نقطة التوازن او اننا سنرى "نقط توازن" كثيرة بين هذه المجموعة وتلك، والنتيجة ان تصرف المجموعات سوف يختلف من فئة لأخرى حيال ذات المعضلة.
إذن، ها نحن امام تحد اخر، فعلى الرغم من معرفة كلمة الله لدى الكثيرين، على أمل ذلك، يتولد تحد اخر في كيفية تفسير كلمة الله وتطبيقها على الظرف أو المأزق أو الاضطهاد الذي يواجهنا، وكاولاد الله وكوننا اخوة في المسيح نحتاج ان ننطلق من مقام مشترك واحد، الا وهو كلمة الله، والذي ينبغي ان يولد نقطة اتزان واحدة، قد تكون باختلافات بسيطة، ولكن ليست بعيدة. هذا لا يعني ان نكون ذوي رأي واحد، فالله خلقنا مختلفين ومتنوعين، وَلَكِن اوصانا بالوحدة في الجسد الواحد، وكذا صلى الرب لأجلنا في إنجيل يوحنا الإصحاح السابع عشر، ولأهمية الصلاة نقتبس مقطعا من الآيات 20 - 23:
"20 «ولست اسال من اجل هؤلاء فقط، بل ايضا من اجل الذين يؤمنون بي بكلامهم، 21 ليكون الجميع واحدا، كما انك انت ايها الاب في وانا فيك، ليكونوا هم ايضا واحدا فينا، ليؤمن العالم انك ارسلتني. 22 وانا قد اعطيتهم المجد الذي اعطيتني، ليكونوا واحدا كما اننا نحن واحد. 23 انا فيهم وانت في ليكونوا مكملين الى واحد، وليعلم العالم انك ارسلتني، واحببتهم كما احببتني."
الوحدة لا تعني ذو الرأي الواحد، بل هي العمل للهدف الواحد بانسجام رغم التعددية لأجل مجد الواحد يسوع المسيح، كما يقول "ليكونوا مكملين الى واحد"، ونتيجة هذه الوحدة هي ان العالم سيعرف ان المسيح هو ابن الله ومرسل من الله، وهذا هو امتحان نجاح الوحدة. ان الوحدة الحقيقية في المسيح لا بد ان توصلنا الى نقطة التوازن التي نبحث عنها حيال كل معضلة، بالذات عند تضارب القيم، تلك المذكورة في الكتاب المقدس مع القوانين التي تنص بها الدولة التي نعيش فيها من جهة، والعادات والتقاليد التي يمليها المجتمع من جهة اخرى.
الوحدة كذلك تعني ان أبناء الله متساوون، مهما كان لونهم او عرقهم او لغتهم او خلفيتهم، وهذه المساواة تنعكس من طبيعة الله العادلة، المكتوب عنه ان ليس عنده محاباة كما يقول بولس الرسول في رسالته الى أهل أفسس (6: 9)، وكما يقول أيوب بوحي الروح القدس: "18 أيقال للملك يا لئيم وللندباء يا اشرار. 19 الذي لا يحابي بوجوه الرؤساء ولا يعتبر موسعا دون فقير. لانهم جميعهم عمل يديه." (أيوب 34: 18 - 19).
أن الله عادل ويحب العدل، كذا قال في كلمته وكذا يريدنا أن نكون، وإذا تمثلنا جميعا بالله وعدله فسوف يهدينا إلى نقطة التوازن العادلة في كل موقف نواجهه بحكمة الله ومحبته من جهة وبدون مساومة على كلمة الله من جهة أخرى.