نحتاج كمسيحيين أن نقرأ القرآن ونفهمه لنفهم أحباءنا الذين يؤمنون بالقرآن ويعتبرونه كلمة الله. ويساعدنا هذا الأمر أيضا في زيادة الوعي المسيحي وبناء حوار متبادل مع جيراننا المسلمين. في ذات الوقت يهتم الإنسان المسيحي بمشاركة إيمانه مع جيرانه بكل احترام إلا أننا نفتقر إلى المفردات والقوالب الفكرية التي تشكل الأرضية المشتركة في حديثنا مع جيراننا المسلمين. ومن هذا المنطلق الذي يسعى لبناء التكاتف والحوار والسلام الاجتماعي ويسعى أيضا إلى نشر الإرسالية المسيحية بالمحبة والفهم والكلمة الطيبة يتوجب علينا فهم القرآن. ولقد رأيت عدة قراءات للقرآن لكنني لم أجد قراءة أو مقاربة مسيحية. واعتقد أن المقاربة المسيحية للقرآن ستخلق ديناميكية حوارية مهمة بين الأحباء. وستساهم في تشكيل روحانية مسيحية إرسالية وتغني الفكر الإسلامي بخلق تواصل مع المفردات المسيحية والقيم الإنجيلية. ولا أقدم هذا العمل كنوع من خلق التوافق بين المسيحية والقرآن. فسأبين نقاط التوافق ونقاط الاختلاف أيضاً. وسيكون هذا العمل مشروعا لاهوتيا يأخذ القرآن سورة تلو الأخرى من منظور مسيحي أو ربما بشكل محدد من منظور أحد اللاهوتيين المسيحيين العرب. وسأبدأ طرحي بالحديث عن الفاتحة وهي السورة الأولى في القرآن.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
يبدأ النَّصُ بالبسملة. ونجد النص القرآني يتميز بسجع ينتهي بياء ونون (عالمين . . دين . . نستعين . . ضالين) ويتجمل التواصل الصوتي مع كلمات رحيم ومستقيم وهي تنتهي بياء وميم ومع التكرار مثل تكرار الكلمات: "إياك"، "صراط"، "عليهم"، "الرحمان الرحيم". وأجدُ تشابهاً في استخدام الاسم الإلهي عند المسلمين والمسيحيين واليهود. يذكرُ اليهودُ الاسمَ للدلالةِ على اللهِ الَّذي لا يُنطق باسمه إجلالاً له وتعبيراً عن مخافته. ويذكرُ المسيحيون الاسمَ للدلالةِ على طبيعة الله وسُلطانه. يقول البشيرُ متى 28: 19 "وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس". ووجه التشابه هو ربط كلمة اسم باللّه.
وعندما يتقدمُ الإنسانُ باسم الله واستناداً إلى رحمته الثابتة والأكيدة فإنَّ الله يتجاوب مع الدعاء الصادر من قلب صادق. ويقدم لنا النصُ القرآني اللهَ بعدة تعابير فهو الرحيمُ والمحمودُ والرب والديان والمعبود والمعين والهادي والمُنعِمُ. وأقبلُ واحتفل كمسيحي بكل هذه الصفات الإلهية. وافتخر بها. وعندما أنظرُ إلى الإنسان أراه يقدمُ الحمدَ والعبادة ويطلبُ المعونة والهداية. ويتحدثُ الإنسانُ إلى الله عالماً أنَّ اللهَ يصغي للصلاة ويرحم الإنسانَ لا سيَّما أنَّ صفةَ الرحمة أكثرُ ما يتكرر في الفاتحة. وتتشابه الفاتحةُ مع المزمور الأوَّل فتقسمُ البشرَ إلى قسمين: من وجد طريقَ الهداية واختبر نعمةَ الله ومن ضلَّ الطريقَ فوقع عليه غضبُ الله.
وأجد في الفاتحة أهميةَ الدَّينونةِ الإلهيةِ وذلك بالحديث عن يوم الدين وعن الغضب الإلهي المُعلن ضدَّ المغضوب عليهم والضَّالين. وهنا أتساءلُ: من هم المغضوبُ عليهم؟ ومن هم الضالون؟ ومن هم المنعمُ عليهم؟ يقول تفسيرُ الجلالين أن المغضوبَ عليهم هم اليهودُ والضالينَ هم النصارى وأنَّ المهتدين ليسوا يهوداً ولا نصارى. ويقتبسُ الطبري سورة النساء 66-69 ليؤكد أنَّ المهتدين هم أولئك الَّذين أنعمَ اللهُ عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. ويقول الزمخشري أنَّ المنعمَ عليهم هم المسلمون. ويتفق الزمخشري مع تفسير الجلالين في وصف اليهود والنصارى. وهذا التفسير مؤيَّدٌ من التفاسير الحديثة أيضا مثل تفسير الطنطاوي.
كمسيحي، تستفزني كتبُ التفسير المذكورة أعلاه إذ تصفني بالضال وتصف اليهودي بالمغضوب عليه. وأرفض الوصفين. فجميع البشر هم أحباءُ الله ونطلب الهداية للجميع. وأقبل كمسيحي حقيقة غضب الله. يقول الرسول بولس: "لأن غضب الله معلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم، الذين يحجزون الحق بالإثم" (رومية 1: 18). أيضا، موضوع الصراط المستقيم يستحضر في ذهني قول السيد المسيح: أنا هو الطريق والحق والحياة (يوحنا 14: 6). وتتشابه اللغة الإقصائية في القرآن مع لغة البشير يوحنا إذ يقول: "الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية، والذي لا يؤمن لن يرى حياة أبدية بل يمكث عليه غضب الله" (يوحنا 3: 36). ومن المؤكد أن هذا النص الإنجيلي يستفز المسلم واليهودي أيضاً. ورغم الاختلاف في المواقف اللاهوتية إلا أننا يجب أن نقبل أن طروحاتنا الدينية تستفز الآخر في عدة نواح. وهذه قضية تحتاج إلى حكمة وتعاون مشترك لبناء مجتمع منفتح للإصغاء قبل التهجم على الآخر. وسنلتقي بإذن الله في شرح لاهوتي آخر وسورة قرآنية أخرى.