منذ نشأتي في مدينة السلط اختلطت الوطنية بالخدمات الكنسية لدى عائلتنا. والدي القس أيوب إيليا الريحاني الذي ولد في مطلع القرن العشرين في مدينة الحصن كان شاهداً لولادة إمارة شرق الأردن تحت قيادة الأمير الهاشمي.
التحق والدي في أول جهاز أمني في بدايات 1920 في سلك الشرطة وكان رقمه العسكري 9 ونال أثناء خدمته شرف حراسة السمو الملكي الأمير عبد الله الأول بن الحسين آنذاك.
في نفس الوقت كان والدي نشيطاً في الكنيسة الأرثوذكسية. كان مرنماً في جوقة الكنيسة الأرثوذكسية في الحصن وكان معروفاً أن صوته جهور وجميل. كما كان يعزف على الأكورديون والترامبيت والكلارينت وكان عضواً في أول فرقة موسيقية عسكرية عام 1921 والتي تشكلت من عشرة موسيقيين المنتسبين في قوى الأمن الأردني.
لم يكتف والدي بالمواظبة في الكنيسة بل كان لديه شغف التعمق في الإيمان. الليتورجية الكنسية آنذاك كانت باليونانية ولم يكن لديه كتاب مقدس باللغة العربية الذي كان متوفراً فقط للكهنة.
كل هذا تغير عندما ذهب والدي إلى مدينة القدس والتحق في كلية اللاهوت الإنجيلية حيث درس علم اللاهوت والكتاب المقدس وتعلم الكثير من مرسلين بريطانيين وأمريكيين من كنيسة جماعات الله كانوا مقيمين في القدس. بعد ذلك تم رسامة والدي قسيسًا مع جماعات الله وقام بزرع كنائس في رام الله والسلط وبعد ذلك في مسقط رأسه الحصن.
كان والدي أيضا مهتماً بالتعليم وأسس ثلاث مدارس في شمال الأردن إحداها مدرسة مشتركة للروم الأرثوذكس وجماعات الله. عند مراجعتي لمكتبة العائلة مؤخراً وجدت شهادة مدرسية لأحد الطلاب من عشيرة الخصاونة. شاركت هذه الشهادة مع رئيس وزرائنا الحالي الدكتور بشر الخصاونة.
مع مرور السنوات كان لوالدي دوراً مهماً في تأسيس كنائس لجماعات الله في فلسطين والأردن ولبنان. وبعد حرب عام 1948 ركز جهده على الأردن والضفة الغربية.
في عام 1942 وصل عدد الطلاب في مدرسة جماعات الله في السلط إلى ما يقارب 250 طالب. وفي ذلك الوقت قام الأمير عبد الله رسمياً بالاعتراف بكنيسة جماعات الله.
انا ولدت وترعرعت في السلط وذهبت للولايات المتحدة لدراسة حيث حصلت على شهادة في الهندسة المدنية والبيئية وكان لي أيضا عمل في المجال الطبي ونقل التقنيات الطبية الحديثة إلى الأردن والدول العربية الشقيقة. كما ودرست في مدينة دالاس الأمريكية دراسات شرق أوسطية ودراسات في الكتاب المقدس تم بعدها رسامتي قساً لدى جماعات الله الأردنية. كنت أعمل لجانب والدي وساعدته على تسجيل كافة أملاك الكنيسة كوقف كنسي لحماية تلك الأملاك للخدمة الكنيسة.
وخلافاً للكنائس التي لها تسلسل هرمي فإن الإنجيليين يعملون على أساس اللامركزية حيث تحصل كل كنيسة محلية على صلاحيات استقلالية واسعة. ولكن رغم ذلك فبعد مدة تم الطلب مني أن أقود عمل كنائس جماعات الله في الأردن وقمت بتنظيم وتنسيق كافة العلاقات مع الحكومة والدوائر الرسمية.
كنائسنا الإنجيلية مسجلة رسميا وتم تدوين تسجيلها في الجريدة الرسمية قبل عقود حيث نحصل على دعم كامل من الجهات الرسمية. فنحن نتمتع بحقوق، ومزايا وحقوق ضريبية حيث يتم الاعتراف بالتبرعات لكنائسنا ويسمح بخصمها من دخل المواطنين كما نصدر شهادات زواج وعماد وتقوم الدوائر الحكومية بالاعتراف وبتسجيل كافة وثائقنا في السجلات الرسمية.
لقد سألت والدي عدة مرات لماذا لم تقوموا بتشكيل محكمة كنسية كما هو الحال في الكنائس الأخرى، قال لي أن جل اهتمامات المحاكم الكنسية تتمحور في موضوع الطلاق ونحن لا نؤمن بالطلاق. أما ما يتعلق في باقي أمور الأحوال الشخصية مثل موضوع الإرث فيتم تطبيقه حسب الشريعة الإسلامية.
مؤخرا، عدم وجود محاكم كنسية لمعالجة الأمور الشخصية سبب مشكلة للكنائس الإنجيلية. فمنذ عام 2014 ومع صدور قانون رقم 24 المختص بمجالس الطوائف المسيحية، برزت المشكلة. تم نشر ملحق مكون من 11 طائفة يسري عليها القانون في حين يحدد نفس القانون أن هناك مسيحيون ليسوا أعضاءً في تلك الطوائف. ويوضح القانون في مواده أن المواطنين المسيحيين الذين لا توجد لهم محكمة يمكنهم الاستفادة من إحدى المحاكم الكنسية أو من محكمة نظامية لأي أمر متعلق بالأحوال الشخصية.
لقد شكل نشاط مؤخراً للكنيسة الأرثدوكسية عاصفة. فقد راسل المطران خريستوفوروس عطا لله في 26 كانون ثاني الماضي رئيس المجلس القضائي بهدف منع المسيحيين الاستفادة من المحاكم النظامية، وهذا مخالف للقانون. وافق رئيس المجلس القضائي في البداية على الطلب ولكنه عاد وتراجع بعد توضيح عدم قانونية التعميم.
أكثر الأمور إيلاما في تلك الحادثة كانت محاولات قائد في الكنيسة الأرثوذكسية تشويه صورة كنائسنا. في نفس الرسالة قال المطران خريستوفرس. " هناك مخاوف كبيرة من التعاليم والأفكار التي تقوم هذه الجهات بنشرها بين أبناء المجتمع المسيحي وهي أفكار غريبة وبعيدة كل البعد عن إيماننا المسيحي وعن الهوية الوطنية للكنيسة المحلية ناهيك عن أن هذه الجماعات لها تمويل وأجندات خارجية غير واضحة وعليها تحفظات من قبلنا."
إن كنائسنا الإنجيلية مستقلة مالياً ولا تحصل على تمويل من أحد فيما يتعلق بالمصاريف الإدارية. أحياناً نحصل على مساعدات مخصصة للتعليم والصحة واللاجئين وزيارة السجناء والأيتام.
في عام 2007 تأسس المجمع الإنجيلي الأردني ليضم كنيسة الاتحاد المسيحي الإنجيلية، الكنيسة الإنجيلية الحرة، كنيسة جماعات الله الأردنية، طائفة الكنيسة المعمدانية الأردنية، طائفة كنيسة الناصري الإنجيلية. ويتبع لهذه الكنائس حوالي عشرة آلاف عضو ويقوم المجمع بتنظيم علاقة الأعضاء مع الجهات المحلية والخارجية.
ومن بين مواقفنا الخارجية اعترض المجمع الإنجيلي الأردني على نقل السفارة الأمريكية للقدس وعبر مرات عديدة عن الدعم غير المحدود للوصاية الهاشمية للأماكن المسيحية والإسلامية المقدسة في القدس.
كما يعمل المجمع بجهد للانضمام لملحق الكنائس ولكن دون جدوى حتى الآن. نحن نؤمن وبشدة أننا مواطنون لنا حقوق مكفولة ومتساوية حسب الدستور الأردني الذي ينص في مادته السادسة: " الأردنيون أمام القانون سواء لا تمييز بينهم في الحقوق والواجبات وإن اختلفوا في العرق أو اللغة أو الدين".
لقد حمى الأردن حقوق المسيحيين في ممارسة عقيدتهم منذ تأسيس الإمارة. والدي وآخرون دعموا ودافعوا عن الأردن وعن مؤسسيها الهاشميين قبل حوالي مئة عام.
ومع احتفالات الأردن بمأويتها الأولى يسعدنا أن نهنئ ملكنا وشعبنا بهذه المناسبة العطرة متمنين لبلدنا الحبيب الاستمرار والازدهار والمساوة.
الكاتب رئيس كنيسة جماعات الله - الأردن