ان الصدق والأمانة يتطلبان حساب للنفس ومراجعة كل قائد وفرد ومجموعة وهيئة مجتمعية ما ساهم به في منع استفحال الأحوال الرديئة في مجتمعنا في البلاد والتي اوصلتنا الى شفا الحرب الاهلية الذي نشهدها اليوم. ان الكنيسة ايضاً ليست معفاة من مراجعة النفس ايضاً بل العكس:" فكل من اعطي كثيرا يُطلَب منه كثير ومن يودعونه كثيرا يطالبونه بأكثر" (لوقا 12: 48).
ينظر بعض المؤمنين الى حالة العنف المجتمعي بين شعوب البلاد بأنه امر طبيعي ونتيجة حتمية للخطية وشر الانسان وان العالم وضِع في الشرير وانه تذكير إضافي بعلامات آخر الأيام. ان هذا بالطبع صحيح، ولكن استنتاجهم من هذا التشخيص هو الخطأ الفادح بحسب رأيي. انهم يستنتجون خطأ بان الكنيسة مبرَرَة بأن لا تتدخل لا من قريب ولا من بعيد في هذه الشؤون، وبهذا يخسرون الجعالة اذ يهملون الارسالية التي اوكلهم بها الرب.
بالحقيقة ان دور كنيسة المسيح لا يقتصر على طلب حياة القداسة الشخصية والتركيز على علاقة الانسان بالله فحسب، بل على انعكاس هذه القداسة والعلاقة بالله في محبة للقريب والبعيد وطلب الخير له-على الصعيد الفردي والمجتمعي.
يقول الرسول يوحنا: "ولنا هذه الوصية منه: ان من يحب الله يحب اخاه ايضا." (1 يو 4: 21) وهذا الربط العضوي ما بين محبة الله ومحبة الأخ تتكرر في الاعداد 11 و20 من ذات الاصحاح.
من هنا فان الدعوة الجوهرية في مركز عبادة الكنيسة، وهي محبة الله وبناء علاقة حميمة معه، يتوجب ان يرافقها مطالبة الكنيسة لمؤمنيها ان يُظهروا برهان تلك المحبة الإلهية حين يحبون الأخ. ويوضح الانجيل بما لا يقبل التأويل ان المقصود بالاخ هو القريب والعدو وكل انسان خُلق على صورة الله حين يقول: "وان احببتم الذين يحبونكم فاي فضل لكم؟ فان الخطاة ايضا يحبون الذين يحبونهم."(لوقا 6: 32). انظر ايضاً لوقا 6:33 ومتى 5: 47.
يمكن إيجاد دلالات لنوعية وماهية تلك المحبة من تشبيهين في الكتاب المقدس: تشبيهها بمحبة المسيح لنا من جهة وتشبيهها بمحبتنا لذواتنا!
محبة الله: "هذه هي وصيتي ان تحبوا بعضكم بعضا كما احببتكم"(يوحنا 15: 12 وانظر ايضاً يوحنا 15: 34). أي يطلب محبة مشابهة بنوعيتها لمحبته هو لنا. ان محبة المسيح هي المضحية الباذلة والخادمة العاملة والبعيدة عن اي نوع انانية. انه يطلب منا ذات المحبة لجيراننا واعداءنا كبرهان لمحبتنا له!
اما التشبيه بمحبتنا لذواتنا فجاءت مرات عديدة في الكتاب المقدس: "تحب قريبك كنفسك" (لا 19: 18، متى 22: 39، مرقس 12: 31، رومية 13: 9، غلاطية 5: 14 ويعقوب 2: 8). يطلب ان نحب القريب مثل محبتنا لانفسنا. أي انه يعود لمفهوم المحبة الباذلة التي تبحث عن خير ومصلحة الغير مثلما ابحث عن فائدتي ومصلحتي.
وبالتطبيق على حالة بلادنا: يتوجب على كنيسة المسيح، من كل طائفة وملّة دون استثناء، واذا شاءت اتباع وصية سيدها الواضحة، ان تطالب شعبها ان يبحث عن مصلحة وخير العدو قبل القريب ببذل وخدمة. يا لها من ارسالية صعبة ولكن لا مفر منها.
ان هذا يندرج بسعى الكنيسة الى تكوين ثقافة حياة فيها تتفاعل مع احتياجات المجتمع حوله لكي تستطيع أصلا ان تعبر عن محبتها الباذلة له. فاذا تألم شعبي، فاني ابكي معه لأني احبه. واذا تألم "عدوي" (بالنهاية هم ليسوا اعداء ولكن العالم قد يصنفهم أعداء لنا) ابكي معه لأني احبه. وإذا فرح شعبي بإنجاز ما، اسعد ايضاً معه. ان انسلاخها واقصاء نفسها من مجتمعها في سبيل "روحانية" زائفة كفيل ان يبعدها عن قصد الرب.
اعتقد ان هذه الارسالية في سبيل ثقافة حياة وانعكاس محبة الله في محبة الغير-افراداً وجماعات- يتوجب ان تتغلغل في مناحي حياة الكنيسة كلها. فالواعظ يعظ عنها والشعب يرنم عنها والاجتماعات المتعددة تضع ارسالية الكنيسة ان تعكس محبة المسيح لهم بالعمل قبل القول-امام اعين الكنيسة. فهي ارسالية الكنيسة وهدفها.
ولا يتناقض هذا السعي لثقافة حياة مع دورنا كملح يمنع الفساد. فمحبتي لمجتمعي تدعوني لكي اقف وقفة نبوية لاردعه من الفساد وهذا اصلاً لأني احبه. فننتهر الظلم لأننا نحب الظالم ولا نريده ان يشوه صورة الله فيه إضافة لمحبتنا للمظلوم ايضاً.
اعتقد ان ثقافة المحبة التي يمكن ان ينشرها الافراد والجماعات الملتزمين بمحبة الله ومحبة القريب قد تصنع فرقاً. ان الأجواء الطيبة قادرة على نقل مجتمعنا كله الى مكان افضل بعيداً عن العنف والكراهية.
هل ترتقي كنيسة المسيح في الأراضي المقدسة فتقوم بإرساليتها الواضحة في بث روح المحبة والسعي لاجلها وتبرهن محبتها لالهها عن طريق محبة الآخر والسعي لمصلحته؟