نحن نعيش في أزمنة صعبة، فبالرغم من التطور الذي تشهده البسيطة في القرن الأخير، بما في ذلك "رغد العيش" وسهولة التواصل والتنقل، والعلم والتكنولوجيا المتسارعين في الارتقاء، والطب المتطور الذي أطال بعمر الإنسان، هذا من جهة، إلا أنه من الملاحظ تفاقم الأمراض والكوارث الطبيعية والحروب وتسابق التسلح بين الدول، والتي من شأنها أن تضرب "بالتطور" عرض الحائط وتجعل الانسان، في كثير من الأحيان، عاجزا بل ويائسا بدون رجاء أو أمل.
في الآونة الأخيرة نرى تصاعدا ملحوظا ومتفاقما جدا للكوارث والضيقات كالوباء الذي اكتسح العالم بأسره، لغاية الآن، وها نحن أمام كارثة صعبة ومتأزمة جدا كونها متعددة القضايا المعقدة، منها السياسية، الوطنية، الأمنية، التاريخية، الاقتصادية وغيرها، حتى نكاد نكون قرابة حرب أهلية دامية وقاتلة.
الكتاب المقدس يحكي لنا عن "أيام المخاض"، إذ يقول في رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل تسالونيكي، الإصحاح 5 الآية 3:
"لأنه حينما يقولون: «سلام وأمان»، حينئذ يفاجئهم هلاك بغتة، كالمخاض للحبلى، فلا ينجون."
المخاض هو الفترة القريبة من الولادة، والتي تتميز بتفاقم آلام المرأة مع اقتراب موعد الولادة. بولس الرسول يشبه لنا مجيء الرب بالولادة، وقرب مجيء الرب بأيام المخاض، والتي تتميز بتفاقم الآلام وتسارعها كلما اقترب موعد مجيء الرب الثاني.
نعم – نحن لا نعلم اليوم أو الساعة التي يأتي فيها الرب في مجيئه الثاني، كما سبق وأخبرنا الرب، ولكن علينا أن نعلم موسم قرب مجيء الرب، كما نعلم موعد قرب الولادة، وفي هذا الصدد وبخ الرب الفريسيين أنهم يعرفون أن يميزوا علامات السماء، وأما علامات الأزمنة فلا يستطيعون أن يميزوها. يرجع الرب ويطالب بواجب تمييز الأيام الأخيرة عندما طلب منا أن نتعلم من شجرة التين، متى صار غصنها رخصا وأخرجت أوراقها فهي تنذر بقرب مجيء فصل الصيف (متى 24: 32-33).
من هنا فالرب يطالبنا معرفة تمييز علامات أزمنة قرب مجيء الرب، كما يعلم المزارع قرب مجيء الصيف عند نمو أوراق شجرة التين وأغصانها.
برأيي، إن العلامة الأكبر لقرب مجيء الرب هو "الأزمنة الصعبة"، كما يخبرنا بولس الرسول برسالته الثانية إلى تيموثاوس (من فضلك قراءة المقطع في الإصحاح 3، الآيات 1 – 7).
إن الأحداث التي تشهدها أيامنا لهي صعبة ومعقدة للغاية، ولكنها لم تأت من "عدم"، بل هي حصيلة أزمات سابقة لم تُحل، أو أن الحلول كانت مؤقتة وسطحية للغاية، ولكن على أي حال فالشر الذي نراه في أيامنا ليس بجديد، بل كان موجودا في قلوب كل أولئك الذين يسعون للتخريب والدمار والظلم وبث الكراهية والحقد في كل مكان، بما في ذلك بين الشعوب والطوائف المتعددة التي تسكن البلاد، وكل ذلك بسبب سم الخطية المستشرية في القلوب، والتي سكنت الجنس البشري بخطية آدم وحواء.
ليس الهدف هنا الخوض في الأسباب التي أدت إلى ما نحن عليه اليوم، بل محاولة لشق طريق وإيجاد استراتيجيات جديدة في التعامل مع الأوضاع الراهنة وكذلك مع الأيام التي ما بعد الأزمة. نقول ونشدد على كلمة "محاولة"، أو بكلمات أخرى السعي لإيجاد الاستراتيجيات المذكورة.
بداية، برأيي، علينا أن نعطي التشخيص الصحيح لما يحدث في العالم بشكل عام وبلادنا خاصة، وأن "نرى أوراق التين" والغصن الرخص كي نعلم وندرك أن الرب قريب جدا على الأبواب، وهذا سوف يحثنا على السعي نحو الغرض بشكل أقوى وأفضل، ليس بدون كلمة الله وإرشاد الروح القدس الساكن فينا.
من الهام جدا بمكان أن نهبّ كلنا، كأفراد وككنيسة، لمد يد العون قدر المستطاع وبشتى الطرق المتاحة والمشروعة لصد وردع كل شر وكراهية وظلم حولنا من أي مصدر كان، بالذات في هذه الأيام العسيرة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى من المهم، بل والأهم برأيي، أن تكون هذه "الهبّة" ثابتة ومستمرة، بل وفي تصاعد دائم، لماذا؟! لأن هذا الشر الحادث لهو حصيلة الخطية والظلم السائدين بقوة في الأيام الأخيرة، والأزمة الحاصلة في أيامنا كانت موجودة قبل حصولها، ولكن مخبأة ومستترة تحت ظلال كثيرة، واستتارها لا يعني أنها ليست بموجودة.
بكلمات أخرى، لا يجوز أن يهب كلنا الآن على أثر الأزمة الحاصلة، وينبغي أن نفعل، وبعد مرور هذه الغيمة، وهذه صلاتنا، أن نعود كما كنا ونرجع لحياتنا الطبيعية وكأن الأمور "تمام"، ما دام الهدوء يعم أجواءنا وما دامت أمورنا وأشغالنا وعائلاتنا على ما يرام، هذا ما يسمى ب"الهدوء الكاذب"، تماما كما هبت نفوس وكنائس كثيرة عند "حلول" أزمة الكورونا، وسرعان ما "همدت" بعد إيجاد اللقاح وفتح المصالح وعودة الحياة إلى مجراها الطبيعي (على ما يبدو)، وهذا ما تحدث عنه الوحي في القطعة المقتبسة: عندما يتحدثون عن السلام والأمان يفاجئهم الهلاك بغتة فلا ينجون.
كي لا نطيل، ولضيق المقام، نذكر حادثة وردت في العهد القديم، عندما صعد سنحاريب ملك أشور لمحاربة الشعب الاسرائيلي، وسبق ذلك أن أرسل رسلا لإخافة الشعب، فاعلا ذلك على يد "ربشاقى" (2 مل 18 + 19)، عندها يتذلل حزقيا حيث يمزق ثيابه، يتغطى بمسوح ويدخل بيت الرب، وبذات الوقت يتجه إلى النبي أشعياء قائلا إنها أيام "شدة وتأديب وإهانة"، وأن الأجنة قد اقتربت للمولد ولا قوة للولادة، وبالتالي يعلن حزقيا أن الوقت هو "زمن المخاض".
بالرغم من ذلك يعود سنحاريب وينفث تهديداته مرة تلو الأخرى، التي حدت بحزقيا، وبعد أن اتخذ الخطوات المذكورة، أن يصلى صلاة هزت أبواب السماء وحركت قلب الله لأنها صاعدة من قلب متذلل الذي يصرخ أنه ليس بقوتنا يا رب، لأنه بدونك لا نستطيع، لكن بقوتك أنت. قد نعطي عنوانا لهذه الصلاة: "صلاة صراخ الولادة"، بعد أن تمخض حزقيا بالتذلل والبكاء والصراخ وتمزيق الملابس (أو تمزيق القلب) وانتظار الرب، وفي ذات الوقت طلب الصلاة من الأب الروحي في تلك الحقبة، الذي سرعان ما طمأنه بالنصرة على الشر، وهذا ما حصل فعلا.
إن الأحداث الراهنة تشكل تهديدا ليس فقط على بلادنا على شتى شعوبها وأطيافها ولغاتها، إنما هو تهديدا قد تمتد تداعياته إلى العالم بأسره، كون هذه البلاد والمنطقة حساسة ومركز منطقة معركة الشيطان، وبالتالي حري بنا أن نهب بالخطوات التي اتبعها حزقيا وبما تمليه كلمة الله، والأهم من ذلك الاستمرار بهذه الهبة أيضا إلى ما بعد الأزمة، متذكرين دائما أن "غاية إيماننا خلاص النفوس"، هي المأمورية التي دُعينا فيها، لاسترداد الخطاة إلى حظيرة أولاد الرب قبل مجيء المسيح الثاني.
الصبر هو مفتاح الصمود للمثابرة والاستمرار في "هبة ثابتة" تحثنا دائما أن "نعمل ما دام نهار"، عالمين أن "الصيف قريب"، مجاهدين الجهاد الحسن بلا كلل أو ملل.