خلَقَنا الله متساويّن في جوهرنا (غل 3: 28) وأصحاب قيمة عُليا في عينيه (تك 1: 26)، لكننا مُختلفون اشدّ الاختلاف في مكنونات شخصياتنا. فمظهَرُنا الخارجي مختلف، اذ هناك الطويل والقصير والاشقر والاسمر والأسود وحتى الأصفر. واطباعُنا متنوعة فهناك العصبيّ وكثير الكلام والهادئ والمُفكر والاعتباطي والمتأني والمتسرع وغيره. كما ان طريقة تفكيرنا وأنواع الذكاء الذي يتميّز فيه كل منا مختلفين. فهناك العبقري في الحساب الذي يضرب اخماسا بأسداس بالمعنى الحرفي لها دون جهد. وهناك أصحاب الذكاء اللغوي الذين يبرعون في اختيار تعابير اللغة بإتقان ولخير استعمال. وهناك أصحاب الذكاء العاطفي المرتفع الذين يَسبَحون اجتماعيًا بسهولة بين الفئات والمجموعات الإنسانية المختلفة. وهناك أصحاب الذكاء الفني الذين يُخرِجون تُحفَ فنيّة من العَدَم ولا ننسى الرياضي الذي يستغل لياقته وتناسق أعضائه ولعبه الجماعي ومهارته وتقنياته، لكي يحوّل لعبة يركض فيها اثنين وعشرين رَجُلًا وراء كرة الى متعة للعيون ومصدر اعجاب رفيع. ولا يقف الامر هناك- لكن كلٌ منا يولد ويترعرع في بيئة اخرى وبين افراد عائلة وحارة ومجتمع مختلفين. فهناك المولود في قرى نائية فقيرة يتمنى الا ينام على معدة خاوية على ضفاف الامازون وهناك من يولد ويعيش في قصور شاهقة في انجلترا وقد وضعوا الملعقة الذهبية في فمه. وهناك من يربى بتزمت وتعصب- في أفغانستان مثلًا- وهناك من يترعرع في أجواء منتهى الإباحية مثل السويد مثلًا.
لذا تكون حصيلة تركيب الجينات من جهة وما اكتسبه الانسان من بيئته من جهة اخرى- شخصية مركّبة تختلف عن أي شخصية أخرى في الكون!
من هنا فلا عجب اننا نحمل آراءَ متنوعة ونفهم الأمور بشكل مغاير الواحد منا ورفيقه. ويخطئ من يظن ان هذه التعددية هي بالضرورة سبب لبلبلة او انقسام. بالحقيقة - ان هذه التعددية مُثرِية للجنس البشري وتسمح بالأبداع وبالتالي لتطور وتقدم المجتمعات. فهذا الاختلاف والتنوّع يقودان لغِنى فكري وثقافي وبالنتيجة الى استخلاص أفضل النتائج او الطرق (او دمج بينها) لما هو خير المجتمعات. لذا لا عجب الا تتطور المجتمعات الدكتاتورية ذات الرأي "السديد" الواحد فالكل يقبل ويخضع ولا يبدع ولا يتطور.
هل يختلف الامر في المجتمع الكنسي؟
يتوجب التشديد في البداية انه لا مكان للتعددية والاجتهاد في مسائل العقيدة الأساسية مثل فداء يسوع، وحي الكتاب المقدس، الثالوث وربما بعض الأسس الأخرى. لكن اعتبار أي اختلاف في وجهة النظر في الأمور الأخرى مردّه بدعة او هرطقة هو امر خاطئ ومؤذي والاهم.... غير صحيح.
ان التعددية القائمة بين الكنائس والشيع والملل في الكنيسة المسيحية ككل في العالم تشكّل فسيفساء رهيب كثير الألوان وفائق الجمال. ولكن أتساءل هل الامر مشابه داخل الكنيسة الواحدة (او الطائفة ،إذا شئت مع اني لا احبّذ هذه التسمية) كالإنجيلية الحرة في بلادنا مثلًا. هل هناك مكان للتعددية في الكنيسة الواحدة إذا اخذنا بعين الاعتبار وجود الفروقات بين أعضاء الكنائس وشعبها (انظر 1 كور 12: 14). يتساءل المرء- كيف نسمح بتنوّع واختلاف بينما المرجعية هي واحدة فقط وهي تتمثل بكلمة الله والروح القدس الذي يُفسرها. للأسف يعتبر البعض ان لديه احتكار وبمثابة امتياز رباني حصري في تفسير كلمة الله. ففهمه هو الأسمى والادق والروح القدس هو حليفه ومرشده القريب ولا تفسير آخر سواه، وهكذا يرفض أي تفسير مختلف للكلمة. لكن المطلوب هو بعض التواضع امام الرب وكلمته وامام اخوتنا في الكنيسة عامة (انظر 1 كور 14: 12). لنذكر ان الإصلاح البروتستانتي الذي بدأ به مارتن لوثر ومُصلحين معه شدد على اتاحة قراءة الكتاب المقدس لكل المؤمنين وليس حصره في اكليروس او صفوة قوم من العلّامة والمفسرين. ان نتيجة ذلك هو تنوّع التفاسير وهذا ليس بالضرورة مؤذي. لكن اليس الكتاب المقدس كتاب حيّ، فمن هنا من الممكن ان يكون تطبيقه مختلفٌ في كل زمان ومكان في بعض الأمور غير الجوهرية؟ لنذكر ان هناك مدارس في تفسير الكتاب المقدس أي ان تفسير النص الكتابي يخضع لآليات تفسير ومبادئ ولا يمكن فصلها عن العدسة البشرية التي نفسّر بواسطتها وهي مرتبطة بهويتنا وثقافتنا وقوميتنا وتجربتنا الانسانية.
على ارض الواقع، هناك خلافات تنبع من الصراع الشخصي على السلطة والكبرياء وهذه مرفوضة. ولكننا نجد اختلافات منبعها التعددية في مجالات عديدة ومواضيع مختلفة مثل عمل الروح القدس (معمودية ام امتلاء) ووجود المواهب الروحية (أي منها قائم اليوم وما معناها) ولاهوت آخر الأيام (سيناريوهات آخر الأيام وتأثيرها على بلادنا مثلًا) وتركيب نظام القيادة الكنسية (قسيس ولجان ام شيوخ وشمامسة... الله يتكلم للراعي او للشيوخ ام يتكلم للكنيسة ككل) وطريقة اتخاذ القرارات ( نِصاب قانوني للهيئة المقررة ، اغلبية او اجماع لاتخاذ القرار وفي أي فوروم) وغيرها.
مؤخرًا طفى الى السطح موضوع خِلافي آخر بين جماعات الانجيليين في بلادنا. ففي ظل ظروف بلادنا المتمثلة بالصراع الفلسطيني- إسرائيلي وجد نفسه الإنجيلي امام أسئلة عديدة. وبرز الامر بالأساس بين جيل الشباب الذين يرغبون بصدق إيجاد العلاقة الصحيحة بين التفاعل مع أحلام وتحديات شعبهم وبين ايمانهم الذي لا يرغبون يساومون عليه. وجدوا أنفسهم امام واقع الصراع الذي ينتج عنه الاستقطاب والظلم والقتل والعنصرية وغيرها فعبّر بعضهم بصدق بما في مكنونات قلبهم من قلب الصراع الداخلي. اثار الامر بعض التحفظ في ظهرانينا. اعتقد انه يتوجب الا نرفض سماع ما يقوله الآخرون في هذه الأسئلة الخِلافية بالذات انها لا تمس العقيدة المسيحية الانجيلية الكتابية. ان نتيجة رفض الاصغاء لها ومناقشتها باحترام ومحبة داخل البيت الإنجيلي الواحد هو "تصدير" النقاش الى الخارج وارتفاع نبرته وحدّته وربما دحر أصحاب المواقف المغايرة "والمتطرفة" لخارج مجتمعنا الإنجيلي، وهذا خسارة حتمية.
للتوضيح، اشير ان الإجابة على السؤال بخصوص الموقف الإنجيلي الصواب من الأمور المرتبطة بالصراع في بلادنا متعلقة بأسئلة فرعية ليست سهلة اطلاقًا. أعجب من أمرئ يحسم بجرّة قلم (او كَبسة كمبيوتر) الموقف "الصحي" دون دراسة عميقة ومستفيضة. فالموقف الإنجيلي من نتائج الصراع متعلقة بفهم:
- علاقة المؤمن بدولته وشعبه وماذا يحدث اذا تضاربت مصالح هذا وذاك؟
- معنى ارسالية الرب للمؤمنين باسمه ومدى اتساعها؟
- مفهوم الملكوت في العهد الجديد وماذا يشمل؟
- معنى الصوت النبوي في القرن الواحد والعشرين ومتى يتوجب اعلاءه؟
- معنى المأمورية العظمى ومكانها ضمن باقي اعمال ومهام الكنيسة؟
- ما هو معنى العدل الاجتماعي وهل هو قائم حتى اليوم؟ اذا كان قائماً- فهل على الكنيسة اتخاذ منحى للسعي لاجل تحقيقه كإحدى مهامها الرئيسية؟
- مسألة الهوية الشخصية وكيف ترتبط الهوية الايمانية بالرب مع باقي طبقات هويتنا المركّبة؟
- تيّارات لاهوت آخر الأيام المختلفة واي منها هو الادق وتأثيرها على موقفنا تجاه حقوق سكان البلاد فيها وما يحدث في بلادنا اليوم بالعلاقة بينهم؟
بالنتيجة اعتقد انه يتوجب الا نرفض التعددية في المواضيع الثانوية بل ان نتعامل بتسامح مع الأصوات الجديدة في داخل كنائسنا لكي نحفظ وحدانية الروح برباط السلام. يتوجب إدخالها الى بوتقة الكنيسة لتمتحن بالنار وهكذا تخرج الكنيسة بنهج اكثر صفاء واقرب لقلب الله. وهكذا نتعامل مع الآراء المختلفة بجديّة واحترام فهي إشارة نضوج روحي وامان في العقيدة وروح شمولية وقبول لإخوتنا رغم اختلافاتنا.