لا اعتقد ان الاله أسَس ديانات، بل هي من صنع البشر فتعمل كقنوات تربط بين الاله وبين الناس. انها "تترجم" ما وضع من تعليمات ومبادئ -احيانا بلغة ابسط واحيانًا بأكثر تعقيدًا- ليفهمها البشر. ويقوم جهازها الديني قديم العهد بمتابعة وملاحقة البشر ليؤكد اذعانهم لها طواعية او حتى قسرًا. ان هذه الديانات، وكلها تدّعي تمثيل الاله المطلق، تطلب الولاء الكامل باسم الله/ الوهيم/ الرب. إذا كان الاله، مهما كان اسمه، هو الخالق والمسيطر والكامل والديّان، فعندها من الطبيعي ان يطلب الالتزام الكامل، الذي لا تهاونَ فيه. وبغض النظر عن اي ديانة تدّعي انها تمثّله وتقدم الطلبات باسمه، فإنها تأمر بالطاعة والخضوع والتسليم الكامل. الديانات المختلفة نصّبت نفسها ناطقة باسم الاله. لقد قدّمت طلباتها الشمولية لكل الناس مطالبًة بالتكريس الكامل، وهذا يتناسب مع طبيعة وتعريف الاله كمستحق التقدير والاكرام والتمجيد.
كما ان الديانات عامة لا تطالب الناس بأن تحب الاله بنقاوة وطهارة وطيبة قلب فحسب، ولكن طلبها يقترن بالترهيب والترغيب. فالطلب هو للولاء الكامل إذا سعى الانسان للنجاة من هول الجحيم واستعاض عنها بنيل النعيم بعد الموت.
ولا تبقى العلاقة عامودية بين الاله والديانة والناس، ولكنها تأخذ بُعدًا افقيًا، اذ ان هذه القنوات تتنافر فيما بينها. فالولاء لإله ما يستوجب اعترافًا بحقيقة هويته وبصدق روايته وسموّ صفاته وبصحة تعليمه. و تلقائيًا تلغي جزئيا او كليًا اله الديانات الاخرى فتتحفظ من نهج اتباعهم وطريقتهم ومنظومتهم. وهكذا تخلق تعصبًا وتحيّزًا ورفضًا وتنافرًا بين اتباع الديانات التي تنادي كل منها بمن تظنه الاله الحقيقي.
لم اورد هذه المعضلة لاقترح رفض وجود الاله الواحد الحق. فالقرار الا ابحث عن الاله الحقيقي بسبب التنافر والتشعب بين الديانات، لا يلغي انه ربما موجود. كما لا اقترح انه ولأجل التغلب على الاشكالية في التعددية بين "الآلهة" التي تزعم القنوات انها تمثلها، ان نقبل بها كلها. فهي اصلًا في متضاربة فيما تقدمه كطريق الخلاص والنجاة وتتنافر قيميًا وبالرواية والقصة.
ان هدفي من ابراز المعضلة هو الاشارة ان الديانات قد تبعدنا عن حياة الايمان بل تجعلنا نوغل في تعصب يصعب العيش المشترك ولكن هناك مخرج. ان اتباع كل واحدة من الديانات يغدو متعصبًا ومتشددًا ومطالبًا للعالم ان يقبل الهه بشكل قصري، وان كان قسريًا. وهكذا يتمسك بتعاليم دينه ووصاياه وعقائده دون هوادة او مساومة فهي الحق الكامل، وكل من سواه باطل.
المأساة هي ان هذا الالتزام والتدقيق والتعصب هو انتقائي عند اغلب البشر. فهو يتمحور في شؤون طقسية او عقائدية ذات طابع متنافر وحصري، ولكنه يغيب عند كثير من "المتدينين" او "المؤمنين" في نواحي أخرى.
ويسري الامر على كل الديانات، ولكني سأركّز على المسيحية. ففيها نتمسك بعقيدة الخلاص او الثالوث وعصمة الكتاب المقدس وقد قدّم اناس على مر العصور حياتهم لأجل الذود عنها، وهذا حق.
لكن هل نلتزم بنفس الطريقة بالعمل على المحافظة على ترتيب الله الأساسي في الخليقة حين خلق الانسان على صورته كشبهه؟ هل نجد نفس الغيرة عند المسيحيين لاسترداد صورة الله في الانسان والتي تشوّهت بسبب العنصرية او العنف او الظلم او الاستعباد النفسي والجسدي تجاهه؟ هل نجد نفس الشغف فنسعى لنحفظ للإنسان صورة الله فيه كخليقة حرّة ذات كرامة، كما يليق بمن هم على صورته؟
ان استرداد صورة الله في الانسان مرتبط بالإنجيل الادبي الذي يطالب به المؤمنون المسيحيون كما ساوضح فيما يلي.
نجد في المسيحية الالتزام الشديد في الدفاع عن عقائد تميّزنا حتى في داخل الطوائف المسيحية مثل مكانة مريم العذراء ولاهوت آخر الأيام ومكانة القديسين وطرق العبادة الحق وانبثاق الروح القدس من الآب او الآب والابن في الثالوث وغيرها. لكن هل نشهد ذات الالتزام في فقرات انجيلية طويلة مثل الموعظة على الجبل؟ لربما نضحي بالكثير للدفاع عن عقيدة فرعية ما، ولكننا نحجم عن التحرك قيد انملة لأجل محبة الغير وخدمتهم ومسامحتهم وهي من لب انجيل يسوع؟
لقد قام المسيحيون من كل التيارات خلال العصور وما زالوا، بالعمل بشغف لاسترداد صورة الله في الانسان وبتطبيق ناموس المحبة فأقاموا المدارس والجامعات والمستشفيات وملاجئ للمُقعدين وذوي الاحتياجات. ويبدو ان بزوغ الدولة المدنية الحديثة ذات الموارد غير المحدودة، والتي تقدم خدمات الرفاه الاجتماعي للمواطنين جعلت الكنيسة تعتقد انها معفاة من دورها فأصبحت متراخية في بعض ارجاء العالم حياله. فهذا الدور مرتبط بوصية الرب، بترتيب خليقته وبإرسالية كنيسته وبإرساء ملكوت الله ولذا يتوجب اتخاذه بجدية وان تطلّب الامر تعديلًا في استراتيجيات العمل اليوم.
هل نقبل التحدي فنزيل مظاهر التعصب الديني الانتقائي ونتقدم لنحمل الانجيل الشمولي دون نقصان؟