هذا المقال مأخوذ بتصرف من كتاب "تاريخ المسيحية في عصر الإصلاح"، للدكتورعزت ذكي، بدون ناشر، بدون تاريخ نشر، ص 5- 7.
تُمثل حركة الإصلاح الديني الذي فجرها الراهب الأوغسطيني مارتن لوثر في القرن السادس عشر مرحلة فارقة في تاريخ العالم الحديث، حيث كانت هذه الحركة بداية مرحلة ونهاية مرحلة، بداية عهد جديد ونهاية عهد قديم، بداية العصور الحديثة ونهاية العصور الوسطى، لقد حركت حركة الإصلاح مياة البركة الراكده، فإنطلق قطار التغيير ليس في دائرة الكنيسة فقط، لكن شمل التغيير أيضاً دوائر الفكر والثقافة والعلم والإجتماع بل ومفاهيم الحياة بجملتها، فكانت حركة الإصلاح البروتستناتي قوة دافعة لإنطلاقة جبارة في تاريخ الحضارة الحديثة.
لهذا نقول أن حركة الإصلاح في القرن السادس عشر طبعت المجتمع الإنساني وعلى الأخص دول أوربا بطابع فريد كان له من الأثر ما كان للقرن المسيحي الأول. وما أجمل أن نضع عصر الإصلاح هنا جنباً إلى جنب مع العصر المسيحي الرسولي في صورة مقارنة. فكلاً من العصرين كان غنياً برجالاته، غنياً بمناهجه الجديدة، غنياً بنتائجه، وكلاً منهما شكَّل المجتمع الإنساني وأعطي للدين مفاهيمه التي ما عرفتها البشرية من قبل، وحطَّم قيود التقاليد وفتح الباب للإنسان لكي يدخل في علاقة حية مع المطلق – مع الله – وكل منهما نبع من تلاحق أحداث، واتجاهات في الفكر سمحت بها العناية الإلهية وأسهمت بنصيبها في البعث الجديد.
فنجد المسيحية في انطلاقتها الأولى تمتد جذورها في انتفاضة موسى ومن تلاه من أنبياء، ويُمهِّد لهما ما حدث مع الشعب العبراني من أحداث عبر التاريخ من لجوء وتشرد إلى تحرير وامتلاك ثم سبي وتفرق ثم عودة فإحتلال وما يتخلل ذلك من تلاحم وتفاعل من الثقافة اليونانية ثم روما بجيوشها وجبروتها مع قوانينها ورباطها الشامل وسلامها، وفي قلب كل هذا وثنيتها وتحللها الخُلقي، وفي وسط كل هذا كان يتبلور رجاء قديم جديد في الأمة اليهودية أن ساعة الخلاص قد حانت، وتتجه الأنظار إلى وعد قديم، وتُردد أقوال ونبوات عن المسيا المنتظر وكان هذا أقوى وأعظم تمهيد لظهور المسيح المخلص والإيمان به.
وإذا أتينا إلى عصر الإصلاح، نرى أن هناك أكثر من عامل مهَّد لها أيضاً فقد كانت البابوية وتدهور الرهبنة، وجمود اللاهوتية المدرسية وعدم تفاعلها مع احتياجات الشعب ومتاعبه، وفي محاولة للتعويض اندفع البعض باتجاه التصوف، فكانت المُغالاة سبباً للإنحراف نحو مزاولة السحر والشعوذة ومناجاة الأرواح، ثم نأتي إلى عصر النهضة وإعادة احياء العلوم اليونانية الرومانية، واختراع الطباعة وما كان له من أثر في سرعة انتشار المعرفة، وترجمة الإنجيل من الأصل اليوناني، كذلك الإكتشافات الجعرافية للعالم الجديد عبر البحار، وما تبعه من اندفاع البعض طمعاً في جمع الثروات، والآخر لتقديم بشارة الإنجيل هناك. وظهور الروح القومية وتبلورها في رغبة عارمة على الإستقلال الوطنى.
لقد كان صوت الله القدير في العصر المسيحي الأول، كما كان قُبيل عصر الإصلاح يهتف في وسط الخراب وكان روح الله يرف على وجه الغمر، والظلمة وظلال الموت. فكان القرن السادس عشر بداية عصر للنهضة في الدين والأدب والعلم، وبدا وكأن العالم - خاصة المجتمع الأوربي - يستعيد شبابه مرة أخرى، وبدت ثلوج شتاء العصور المظلمة في الذوبان وقد عبَّر مارتن لوثر عن ذلك حين كتب سنة 1522م
"إننا لو درسنا تاريخ العالم كله، فلن نجد قرناً نظير هذا منذ ولادة المسيح. هذه البنايات والمشروعات، هذه الحياة المزدهرة، هذا الرواج التجاري، هذا الإزدهار في الفن لم تعهده البشرية منذ إشراقة فجر المسيحية"
إدوارد سعيد عيسى، طالب بكلية بيت لحم للكتاب المقدس