كنت أستمع بالصدفة وأنا أقود سيارتي إلى أحد برامج الــ Talk Show عن الحرب الروسية ضد أوكرانيا، وفوجئت بأحد المستمعين يعلّق قائلاً: بالحقيقة إنني أخاف على إسرائيل لأن هذا هو هدف روسيا التالي. وفي بوست مسيحي ظهرت خريطة للاتحاد الروسي وأوكرانيا تبيّن بالأسهم الواضحة أنهما تقعان بالضبط في شمال إسرائيل. وكأن هذا البوست يوحي أن الهدف التالي لروسيا هو إسرائيل، فروسيا هي ملك الشمال بحسب النبوءات الكتابية. لكن من أين أتت كل هذه المخاوف؟ وهل هي حقيقية؟ وما هو السند الكتابي لها؟ ليس سهلاً الإجابة عن هكذا تساؤلات. فموضوع النبوءات الكتابية لا سيّما الواردة في العهد القديم وكيف ستتحقق أمر يشغل بال الكثيرين منذ أن نشأت دولة إسرائيل في منتصف القرن الماضي. وازدادت حدة وارتفاعاً بعد حرب الأيام الستة عام 1967. وفي كل مرة ينشب نزاع أو حرب في الشرق الأوسط يطل علينا المفسرون مؤكدين تحقق هذه النبوءة أو تلك. لكن المستهجن في موضوع الحرب الروسية على أوكرانيا هو ربط تلك الحرب بإسرائيل، وأنها هي الهدف التالي لروسيا. يبدو واضحاً أن هناك هوساً وانجرافاً كبيراً للتعلّق ببعض التفسيرات النبويّة التي قامت على أساس فرضيات خاطئة. وكأن الهدف هو السعي للبرهان على صحة هذه التفسيرات.
لعلّ المشكلة الأساسية في كل هذه التفسيرات النبويّة أنها تتجاهل المجيء الأول للرب يسوع المسيح وإتمامه لكل وعود الله لشعب إسرائيل في القديم، وبدئه لملكوت الله، وتأسيسه للكنيسة التي تجمع كل المؤمنين بالمسيح من كل شعب وجنس وأمة. كما كتب الرسول بولس: "لأنكم جميعاً أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع... ليس يهودي ولا يوناني. ليس عبد ولا حر. ليس ذكر وأنثى. لأنكم جميعاً واحد في المسيح يسوع. فإن كنتم للمسيح فأنتم إذاً نسل إبراهيم وحسب الموعد ورثة"(1). أي أصبح جميع المؤمنين بالمسيح من نسل إبراهيم، وهذه حقيقة هامة جداً، وليس هذا فحسب بل حسب الموعد ورثة، أي ورثة كل مواعيد العهد القديم.
وأكثر من ذلك لقد أكّد الرسول بولس على وحدة المؤمنين بالمسيح الكاملة من يهود وأمم(2). ثم ختم موجّهاً كلامه للمؤمنين من الأمم قائلاً: "فلستم إذاً بعد غرباء ونُزلاً بل رعيّة مع القديسين وأهل بيت الله"(3). أي صار المؤمنون بالمسيح من أهل بيت الله. هل هناك أوضح من هذا الكلام؟ ثم كشف لنا الرسول بولس أيضاً عن السرّ الذي أُعلن له: "أن الأمم شركاء في الميراث والجسد ونوال موعده في المسيح بالإنجيل"(4). أي يوجد اليوم شعب واحد لله، له كل الامتيازات والمواعيد. ويتبين لنا أن هدف الله اليوم هو خلاص الإنسان وتحريره من عبودية الخطيّة، وجعلُه إنساناً جديداً صانعاً للصلاح والبر والسلام والعدل في المجتمع(5).
وإذا عُدنا إلى سفر العبرانيين لوجدنا دراسة كاملة عن كيف كانت كل رموز وطقوس العهد القديم، صورة رمزية حيّة للعهد الجديد الذي قام به الرب يسوع المسيح، بموته الكفاري على الصليب، وقيامته الظافرة من
بين الأموات(6). ووصل كاتب سفر العبرانيين إلى هذه النتيجة الواضحة: "فكان يلزم أن أمثلة الأشياء التي في السموات تُطهّر بهذه، وأما السماويّات عينها فبذبائح أفضل من هذه.... وكما وُضع للناس أن يموتوا مرّة ثم بعد ذلك الدينونة. هكذا المسيح أيضاً بعدما قُدّم مرة لكي يحمل خطايا كثيرين سيظهر ثانية بلا خطيّة للخلاص للذين ينتظرونه"(7). هنا نجد أيضاً بكل وضوح أن هدف الله هو أن يتمم بواسطة المسيح عمل الفداء للجنس البشري، ثم يأتي المسيح في مجيئه الثاني لكي يدين الناس وليهب الخلاص الكامل للمؤمنين به. أين نجد دولة إسرائيل في مخطط الله هذا؟ وهكذا يتبين لنا أن موضوع دولة إسرائيل وشعبها ومستقبلها لم يعد له أي أساس في خطة الله.
لا أجد داعياً في هذه المقالة القصيرة أن أناقش بعض النبوءات الكتابية وكيف تمّت في الماضي. لأن هذا سيُدخلنا في جدل بيزنطي لا ينتهي. لكني أقول باختصار: أن المهم في الموضوع أنه توجد افتراضات خاطئة كثيرة وضعها أولئك الذين يفسّرون النبوءات الكتابية. وجوابي لهم أن المسيح قد أتى في مجيئه الأول وبدأ العهد الجديد الذي تنبأ عنه أنبياء العهد القديم، وأقام ملكوت الله، وتمّت من خلاله كل نبوءات العهد القديم. وهو ما ذكره الرب يسوع المسيح نفسه قبل صعوده إلى السماء لتلاميذه إذ قال لهم: "هذا هو الكلام الذي كلّمتكم به وأنا بعد معكم أنه لا بدّ أن يتمّ جميع ما هو مكتوب عني في ناموس موسى والأنبياء والمزامير. حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب. وقال لهم: هكذا هو مكتوب وهكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث. وأن يُكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم مبتدأً من أورشليم. وأنتم شهود لذلك"(8).
أما بالنسبة لليهود ومستقبلهم أقول بحسب كلمة الله المعلنة في العهد الجديد: إن أي يهودي يؤمن اليوم بالمسيح يصبح من شعب الله ومن كنيسة المسيح. إن خلاص اليهودي متوفر اليوم من خلال المسيح. هذه كانت رغبة الرسول بولس نفسه، وهو ما أكّده في رسالته إلى رومية الأصحاحات 9-11. فهو تحدّث عن الخلاص المتوفّر لليهودي من خلال المسيح. ولم يتحدّث البتة عن أي مستقبل خاص بإسرائيل كشعب أو كدولة. ولهذا أقول بكل ثقة أيضاً أن لا علاقة لما يجري من أحداث في عصرنا الحالي بنبوءات العهد القديم.
(1) غلاطية26:3، 28-29.
(2) أفسس11:2-22.
(3) أفسس19:2.
(4) أفسس6:3.
(5) أفسس10:2.
(6) عبرانيين، خاصة أصحاحات 7 إلى 9.
(7) عبرانيين23:9، 27-28.
(8) لوقا44:24-48.