السيدة بَثْشَبَعُ يوحنا دكتورة أخصائية في الجملة العصبية، تطوعت قبل عدة أيام بسبب جائحة كورونا لتترأس طاقمًا طبيًّا، تطوعَ كلُّ أعضائه من أجل المشاركة في وحدة الميدان الطبية التي شكلتها وزارة الصحة العراقية لإستقبال العشرات من المصابين من أبناء الشعب بوباء كورونا. تَهَيَّأَتْ في صباح أول يوم للخروج من دارها متوجهة لأداء عملها التطوعي. نظرَ إليها زوجها بنظراتٍ ملؤها القلق! قبل أن يحضنها ويُقبلها كما يفعل في كل صباح كعادته حينما يودعها وهي تذهب إلى عيادتها الخاصة، قالَ لها:
- ما هو رأيك يا زوجتي العزيزة، أن تتركي فكرة التطوع وتلازمي عيادتكِ، إنكِ تجازفين بحياتكِ؟
أجابته مؤمنة بالرَّبِّ أن التطوع خدمة إنسانية على الرغم من مخاطرها:
- لا تنس يا زوجي العزيز، أن كلنا نحن المتطوعين أعضاءٌ في الكنيسةِ. ثم لا يشبه ذهابي للقيام بواجبي، ذهابكَ أو ذهاب أي رجلٍ إلى ساحات الوغى؛ التي كنتم تُساقون إليها عنوةً من قبل معظم الحكومات السابقة التي لم تأخذ بالحكمة في سياستها، لذلك دخلت حروبًا لا طائل منها بل خسارة، تدمير، قتل، ضحايا بالآلاف، نساء ثكلى، أيتام ومعوقين إضافة إلى أنها لم تحافظ على السلام مع الدولة الجارة التي دخلت حربًا معها؛ مع ذلك يا زوجي، حبيبي وأبو أولادي لم أسألك يومها عن ترك واجبكَ المفروض عليكَ كجندي في ساحة الحرب. كنتَ تقدر أن تهربَ إلى خارج حدود الوطن، أقول هذا لأنكَ لم تجد أو تُصادف في ساحات الوغى ابن أي رئيس دولة، مع ذلك لازمت خندقكَ مُجبرًا على خوض حروب صنعها غيرنا. ثق يا زوجي لو بيد أية حكومة أن تفرض الخدمة الإلزامية على النساء لما ترددتْ لحظة عن تنفيذها! ألم تشاهد المجندات الأميركيات وهنَّ يقتحمنَّ بلدنا العراق مع جيشهم المحتل الظالم.
- صدقتِ يا زوجتي.
- على الرغم من كل مشاركاتكَ في حروب 1948، 1956، 1958، 1991، 1973، 2003 التي سِقتَ إليها عنوةً مع أقرانكَ. بدأتُ بعدها أُشجعكَ كي تكون كاهنًا تلبي دعوة الرَّبِّ وتكرز بمجيء الملكوت، لكنكَ لم تفعل! مع ذلك لم أفقد الأمل بأنكَ في يومٍ ما ستلبي دعوة الرَّبِّ وتكون قسيسًا (رابي قاشا). اليوم تطلب مني أن لا أشارك في الدفاع عن المرضى المصابين بجائحة كورونا، علمًا إني ما كنتُ سأمنعكَ عن المشاركة في الدفاع عن مسيحيي المشرق، امام جيوش الهمج التي شنت حروب الإبادة ضدنا، منها سيفو 1915، مذبحة سميل 1932، صورية 1963.
- مندهشًا! لماذا؟
- لأن الاضطهاد استحقاقٌ لكل المفديين بدم الحمل. لذلك لا زلتُ أتمنى أن تعرفَ الرَّبَّ يسوع المسيح حينئذٍ ستؤمن أن الاضطهاد الذي ينزل علينا كمسيحيين هو اِستحقاق ممنوح لنا من الله! لماذا لا تقوى أية امرأة في الشرق على منع زوجها، ابنها، أخيها أو حبيبها من الذهاب إلى ساحة الحرب التي سيق إليها عنوة؟ لن تجد أي رجل في الشرق يؤمن بالحرب التي تشنها دولته على غيرها! مع ذلك يلتحق بها مجبرًا. مع ذلك لن تجد امرأة في الشرق طلبتْ من زوجها؛ في كل هذه الحروب التي لا يؤمن بها والتي وقعت عبر التأريخ؛ أن يلازم المنزل ويضع البندقية، التي أُجبرَ على حملها، تحت فراشه على الرغم من أنه لا يتمنى أن يحملها لأن في فوهتها قتل نفوس؟ يا زوجي ألم تترمل العديد من نساء بلدنا بسبب الحروب التي لا داعٍ لشنها؟ مَن راعاهنَّ بعد فقدانهنَّ لأزواجهنَّ؟ لا أحد. مع ذلك لم أطلب منكَ أن تبقى في المنزلِ.
- في كلامكِ كل الصواب أيتها الطبيبة الشجاعة، لأن أي رجل في الوطن إذا رفض الإلتحاق بسلك الجيش لا محالة من تعريض نفسه لعقوبة الرمي بالرصاص.
- اليوم تريد مني أن أتخلى عن هدف مهنتي وأهرب من ميدان المستشفى؟ لن يليق هذا بي ولا بكَ يا زوجي. ثق بالله لسنا مع الحرب أبدًا (سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ.)"يوحنا14: 27" أن سلام الرَّبّ الذي فيكَ دلَّ إنكَ ضدَّ كل حربٍ، ضدَّ حتى أي شجار يقع بين إثنين لا تعرفهما بدليلٍ إنكَ دافعتَ ولم تَهجم.. أسَّرتَ ولم تَقتل الأسيرَ.. طالبتَ بالسلام حتى والعدو يطرق باب حدود الوطن بمطرقة الإحتلال.
فتح ذراعيه وإحتضنها وهو يقول لها:
- نعم يا زوجتي العزيزة والبطلة لم أؤمن بأية حربٍ، الدليل تم سوقي مثل غيري عنوةً. لكن اليوم عرفتُ إن قضية الدفاع ليست محصورة في ساحاتِ الحرب، بل ها هي زوجتي البطلة تدخلُ في حرب دفاع عن المعرضين للإصابة بجائحة كورونا. كنتُ أتصور أن قضية الدفاع تخص الرجال وحدهم. ثقي يا زوجتي حبيبتي إن هناك العديد من الشكوك في أسباب كل الحروب التي شُنَتْ ولا زالت تُشنُّ بين جيوش الدول من حول العالم، بنيرانها يحترق اليابس والأخضر، يسقط على أثرها العديد من الأبرياء ضحية لأسلحتها.. بسقوط قنابلها تُهَجَّر المئات من العوائل.. بإطلاق صواريخها تُهَدَمُ مُدُنًا كاملة.. وفق إتفاقاتها يَتِيتمُ المئات من الأطفال دون رحمةٍ.. في نتائجها العوق للعديد من الشباب بالتساوي.
- صدقتَ يا زوجي وحبيبي.
- هيا إذهبي بل أسرعي الخطوات لأن هناك العديد من المصابين ينتظروكِ أنتِ وأفراد طاقمكِ.
- إعلم يا زوجي المخلص، أني وزملائي أعضاء الطاقم الطبي، قد قررنا بقوة الرَّبِّ يسوع المسيح أن نُهزم عدو البشرية، كورونا. إننا في صراعٍ مع قوات فايروس كورونا الشرسة.
- موقفكِ يا زوجتي أحقُّ من موقف أي رجل سيق إلى ساحة الوغى عنوةً! لأنكِ مقتنعة بأدائكِ، ولم تُساقي إلى عملكِ عنوة. أما أنا وكل من تمَّ سابقًا واليوم سوقه عنوة إلى ميادين الحروب، لا نسعى إلى صناعة الحرب أبدًا، بل نحاول تحاشي حتى المفروضة على الوطن لأن للسلام سبله وطرقه. لكن ماذا نقول لأطماع الجيوش المحتلة، بيد نمدها لهم للتصالح بينما قد أجبرونا أن نضع اليد الأخرى على الزناد، بينما تصرخ الحكومة: "هيا دافعوا عن شرف وتربة الوطن." إن هربنا قالوا عنا: "جبناء" إن شاركنا في الحرب نجد بأننا نخالف إيماننا المسيحي. يا رَبُّ خلصنا من هذه الحيرة.
- إذن لو هرب أيُّ رجل من ساحة الحرب، برأيي لا يمكن أن تحتقره الأنظار، لأن صانع الحرب هو الشيطان، بينما الله صانع السلام (يوحنا 14: 27).
- أنا معكم يا زوجتي العزيزة، بمشاعري وفكري وقلبي كما أنتِ أيتها المرأة مع زوجكِ، شقيقكِ، الذي سيق عنوة إلى ساحة الحربِ، لأنكِ ترفضين كل شجار أو معركة أو حربٍ لأنكِ لا تقبلين بها لأن في قصصها إزهاق أرواحٍ بريئةٍ.
ركبت سيارتها لتجلس خلف مقودها، إذا بها كعادتها تفتح نافذة السيارة المحاذية لها لتودعه، وضعتْ أصابع كف يدها اليسرى على فمها وأرسلتْ له قبلة مباركة في الهواء، وهو بدوره إستلمها ووضعها على شفتيه. قالتْ له مازحةً:
- لا تخش من قُبلِ زوجتكَ، إنها خالية من فايروس كورونا.
اِبتسم وهو يلوح بيده كعلامة وداع. لم يمض ذلك النهار إلا وقام وأرسل رسالة عبر هاتفه الخلوي، إلى زوجته، قال فيها:
- سأسعى بمشيئة الرَّبِّ كي أكون كاهنًا (رابي قاشا) لذلك لن أقوى اليوم على المكوث بين الجدران الأربعة، وأنتِ بدوني تدافعين عني! ضد عدوٍ يهددنا جميعًا. لطفًا زوجتي الفاضلة أريد بإلحاحٍ ولجاجةٍ التطوع معكم في أي عمل توكلني به وحدة الميدان الطبية.
أجابته بعد ساعةٍ:
- أسرع يا زوجي البطل، إختياركَ في مكانه الصحيح لأنه عَنْ رِضىً ورغبة.. أسرع لأن حربكَ الآن هي حقٌّ لأنها ضد كورونا صنيع الشيطان.. ضد نتائج الخطيئة.. مواجهتنا اليوم هي ضد فايروس كورونا، الذي هو عدو البشرية. هيا أسرع يا زوجي لقد تمت الموافقة على طلبكَ لتكون ضمن طاقم الإسعاف الفوري.
بعد أن أغلق هاتفه الخلوي، قال في نفسه:" مع الأسف ما زالت بعض الدول حتى بوجود كورونا، تتقاتل فيما بينها دون أن يتعظ رؤساؤها."
تقدم ليودع أمه العجوز المقعدة على كرسي يسير بعجلات. توسلتْ إليه أن لا يترك ولديه التوأمان، خاصة وهو عالم بحالتها الجسدية. إنحنى عند قدميها ولزمهما بيديه! وضعت يدها على رأسه وقالت له: "ليبارككَ الرَّبُّ أيها الابن البارُ." رفع رأسه وهو ينظرُ في عينيها بنظراتِ توسلٍ، قال لها:
- أطلب منكِ يا أمي الحنونة أن تحرسي ولديَّ بأم عيونكِ. ثقِّ بالله لن أقدر أن أتحمل قعدتي في البيت وحبيبة قلبي تقف مع زملائها ضد عدوٍ خبيثٍ.
خرج يسير (وَسَارَ نُوحٌ مَعَ اللهِ.)"سفر التكوين6: 9" كأنه يحمل صليبه على ظهره وهو يرنم: "كنيستي كنيستي.. أبناء وطني."
وصلَ إلى وحدة الميدان الطبية، تم على الفور تزويده ببدلة وقاية بيضاء وكمامة وكفوف. ما أن إرتداها حتى إلتحق بطاقم مركبة الإسعاف الفوري. إنطلقت بهم لنجدة أحد المصابين. بينما هو سعيد بتطوعه هذا إنطلق به الخيال ليجد نفسه، يُواصل سيره وقد رفع بيده علم مكتوب عليه (جَنَّةِ عَدْنٍ)"سفر التكوين3: 23" مرَّ ببلدانٍ عديدة بينما شعوبها تنظر إليه بوقارٍ وإحترامٍ، حتى سأل بعضهم البعض:
- من يكون هذا؟
أجاب كلٌ حسب تكهنه: " إنه سومري. إنه أكدي. إنه بابلي. إنه أشوري إنه إنه إنه عراقي من بلاد ما بين النهرين الأرض التي عليها خلق الله جنة عدن."
ما أن وقفت مركبة الإسعاف أمام دار المستنجد بهم حتى أُغلِقت ستائر خياله. اِندهش عندما وجد الذي جاءوا لإسعافه هو أحد أعضاء منظمة (أطباء بلا حدود). قبل أن يحملوه على السَدْيَّةِ قال لطاقم الإسعاف:
- لطفًا دعوني أتكلم معه.
سمحوا له. فقال له بصوت جهوري:
- إنهض أيها البطل. إنهض بقوة الرَّبِّ. إنهض وإلا تأخرت عن أداء واجبك الإنساني. إنهض وضع يدكَ في يد الرَّبِّ المثقوبة كي تقف معنا حتى نقوى على الدفاع عن البشرية ضد عدوٍ ليس ككل الأعداء الذين مروا على أرضِ بلدنا. إنهض فنحن بالرَّبِّ منتصرون.
نظر ذلك المسعوف إليه وهو يومأو إليه بأصابع يده، بعلامة النصر.
المحامي/ مارتن كورش تمرس لولو