في عصر العولمة والتواصل الإجتماعي عبر الشاشات، أخذت تتدافع وتتنافس الشخصيات المختلفة بالنصائح والإرشادات تحت مسمى "coaching" أو "التنمية البشرية", بهدف تشجيع الفرد وحثّه للتقدُّم نحو حياة أفضل، ولترميم ما هدمته وشوَّهته تحدِّيات الأيام في شخصيته وتفرّده ليتمكن من عيش حياة رغيدة صحيّة وناجحة. لذا نلاحظ اليوم ازدياد التركيز على الفرد، ورغبات الفرد، وأهدافه، وتطلّعاته... ومن الملفت للنظر بالسنوات الأخيرة نمو النزعة لدى الفرد في استقصاء أي شخص وأي مكان أو مجموعة قد تؤثر سلبًا عليه، دون محاربة ودون مقاومة... أصبح يتنازل بسهوله لأنه يختار نفسه أولا! ومع الوقت، بدأت هذه النزعة تتغلغل في كنائسنا وتعاليمنا المسيحية وبين أفرادها... صارت "الأنا"، وراحتي، وأمني، وأماني أولا وقبل أي شيء أو أي شخص آخر! الأمر الذي أدى إلى فتور في العلاقات وبرودة في المحبة، وبلبلة في ترتيب الأولويات المسيحية.
من خلال دراستنا للكتاب المقدس وتأملاتنا المختلفة فيه، نلاحظ بأن الله كان يحثّ الفرد وبإستمرار على أن يهتم بالمجموعة، فنجد على مدى العصور والتاريخ فاعلية وقوة الجماعة بسبب اتحادهم واتفاقهم: "
وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضًا: إِنِ اتَّفَقَ اثْنَانِ مِنْكُمْ عَلَى الأَرْضِ فِي أَيِّ شَيْءٍ يَطْلُبَانِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُمَا مِنْ قِبَلِ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ" (متى 18: 19).
لقد تكلّم الله إلى ابراهيم وحثَّه من أجل الجماعة، وتكلّم إلى نوح من أجل الجماعة، وإلى موسى، ويشوع وغيرهم.. واستمر في كلامه، وبمجيئه هو الفرد من أجل الجماعة كان كلامه واضحًا مُعلنًا حيث مات على الصليب وقام منتصرًا كيما يمنح الجماعة خلاصا وحياة أبدية.. وبعد قيامته استمر بتوصية تلاميذه وحثّهم بأن يتابعوا ويجتهدوا ويعملوا من أجل الجماعة، وطالبهم أن يذهبوا إلى جميع الأمم.. "فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ" (متى 28: 19).
إن الكتاب المقدس ليس كتاب لفترة زمنية معينة، وهو غير مخصص لأشخاص معينين أو أفراد. بل هو كتاب لكل الأزمنة ولكل الناس. هو كلمة الله التي فيها يعظنا ويرشدنا ويوصينا وينبهنا ويعلمنا ويُنمّينا.. ويحثّنا كيما نكون أفراد مثمرين فعّالين بين المجموعة، ومن أجل المجموعة. إنه يشجعنا على أن ننكر أنفسنا كما فعل هو من أجل المجموعة، وأن نتبعه في كل وصاياه وتعاليمه، كي نكون جديرين بلقب: أولاد الله!
أنا لا أنكر بكلامي هنا أنه من حقي وحقك كأفراد ان نعيش لأنفسنا ولراحتنا النفسية، وهو أمر شرعي وطبيعي ومهم أن نهتم بصحتنا النفسية والجسدية والروحية وأن نستثمر فيهم، ولكن من المهم أيضًا وبذات الوقت أن نكون يقظين ومتنبهين ونميّز ما بين الاستثمار في الذات بهدف العطاء الأفضل للمجموعة، وما بين التركيز على الذات والانغماس في الأنانية والأنا ومتعة الذات فقط، دون الآخر!
فلنتذكر كأولاد الله ما هي دعوتنا الأساسية في كلمته، وما هو الغرض من وجودنا كأفراد في هذه الحياة:
"لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ"(يوحنا 3: 16). فهل من محبة أسمى وأعظم من هذه بأن يبذل الفرد نفسه من أجل الجماعة؟!
إن الله يطالبنا بأن نكون في هذا العالم ونحبه، دون أن نكون من هذا العالم ومن شهواته ورغباته وأنانيته وقسوته ولا مبالاته.. فمن وصايا الله: تحنّننوا، اعطفوا، اعتنوا، أحبوا، باركوا، ابتسموا بالوجوه، ساندوا، ادعموا... وكما قال المسيح، من ترفق بأحد هؤلاء فكأنما فعل الأمر تجاه المسيح نفسه...
"وَمَنْ قَبِلَ وَلَدًا وَاحِدًا مِثْلَ هذَا بِاسْمِي فَقَدْ قَبِلَنِي"(متى 18: 5).
انتم ملح الأرض، فإن فسد الملح، بماذا يُملّح؟! كيف لك أن تستمتع بتناول طعامك وغذاءك دون ملح؟ فبدونه لا طعم ولا متعة ولا بركة...! "بِهذَا أَوْلاَدُ اللهِ ظَاهِرُونَ وَأَوْلاَدُ إِبْلِيسَ: كُلُّ مَنْ لاَ يَفْعَلُ الْبِرَّ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ، وَكَذَا مَنْ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ" (1 يوحنا 3: 10).
إن العطاء بطبيعة الحال يحتاج إلى طاقة، ورغبة ودافع، وقلب خادم... تمامًا كقلب المسيح! وهو دعوة لكل فرد في المجتمع...
والعطر يبقى دوما في اليد التي تعطي ورودا...