مقدمة:
لقد جادلنا أنَّ العهدَ القديم هو كلمةُ الله التي كُتبت من أجلنا وهو كتابٌ لنا. وليس السُّؤالُ هل يجب أن أطيع العهدَ القديمَ بل كيف أطيعه؟ هل أطيع النَّبـي موسى كما أطاعه الـمُحارِب يشوع (تثنية 7: 1 - 2)؟ لقد دخل يشوع وجنوده إلى أريحا "وحرّموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة، من طفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحميـر بحد السيف" (يشوع 6: 21)! هل أتصرف مثل إبراهيم أو داود أو سليمان وأكون متزوجاً من عددٍ من النَّساء؟ هل أطيع قوانين الحلال والحرام في المأكل والملبس والمأوى وغيـر ذلك؟ هل أحصر القسم الأكبـر من رسالة الله في العهد القديم في شعب بني إسرائيل؟ كيف يكتشف المسيحيون رسالة الله لهم في العهد القديم وكيف يطيعونها؟[1]
من الأفضل أن نفتـرض أنه يوجد أكثـر من معنى في النَّص المقدَّس. فهناك المعنى الأضيق المرتبط بالسِّياق التَّاريخي واللغوي وشعب العهد القديم وهناك المعنـى الأوسع المرتبط بكل أسفار الكتاب المقدس في العهدين وشعب المسيح.[2] علينا أن ندرك نوع التـرابط بين المعنـى الأضيق والمعنـى الأوسع ونضعهما في حوار مع بعضهما بعضاً. وإن تتطلب الأمر عدم طاعة المسيحي للمعنى الأضيق في ضوء المعنى الأوسع فهذا أمرٌ مقبول كما سنجادل أدناه.
العهد القديم في ضوء نقاش بولس عن الحرف والروح
ولا نستطيع التّعرف على المعنـى الأوسع للنَّص دون أن يكون المسيحُ غايةَ النَّاموس (رومية 10: 4).[3] يقول الرسول بولس: الحرف (γραμματος) يقتل ولكن الروح يُحيـي (2 كورنثوس 3: 6).[4] ويؤكِّد لنا رسولُ الأمم أنَّ العهدَ القديم يكشف الخطيئةَ وفشلَ الإنسان أمامها وبالتَّالي دينونته. لقد أظهر العهدُ القديمُ معيارَ البـرِّ المطلوب ومكّن العهدُ الجديدُ الإنسانَ من الوصول لهذا المعيار الإلهي بفضل نعمة ربنا يسوع المسيح. ويقول الرَّسولُ بولس: "هل النَّاموس خطية؟ حاشا! بل لم أعرف الخطية إلا بالنَّاموس. فإني لم أعرف الشَّهوة لو لم يقل النَّاموس لا تشته" (رومية 7: 7). وبالتالي يُعلن الرَّسولُ أنَّ الإنسان تحت الدينونة بسبب الوصية وتصير الوصية المقدسة والعادلة والصالحة وسيلةً لدينونة الإنسان وقتله. الحرفُ يقتل.
ويستخدم الرَّسولُ بولس هذه المقارنة بين الرُّوح والحرف في أكثـر من مكان إذ يقول في رسالته إلى أهل رومية: "لأن اليهودي في الظاهر ليس هو يهودياً، ولا الختان الذي في الظاهر في اللحم ختاناً، بل اليهودي في الخفاء هو اليهودي، وختان القلب بالروح لا بالكتاب (γραμματι) هو الختان، الذي مدحه ليس من النَّاس بل من الله" (رومية 2: 28 - 29). وكلمة "الكتاب" هي نفس كلمة "الحرف" التـي اُستخدمت في 2 كورنثوس 3: 16 مع الأخذ بعين الاعتبار اختلاف الإعراب. علاوة على ذلك، يقول الرسول بولس: "لأنه لما كنا في الجسد كانت أهواء الخطايا التي بالناموس تعمل في أعضائنا، لكي نثمر للموت. وأما الآن فقد تحررنا من الناموس، إذ مات الذي كنا ممسكين فيه، حتى نعبد بجدة الروح لا بعتق الحرف" (رومية 7: 5 - 6).
من الواضح أنَّ الرَّسولَ بولس لم يتخلى عن نصوص العهد القديم إذ اعتبرها كلمةَ الله الموحى بها والنَّافعة (2 تيموثاوس 3: 16 - 17). ويؤكّد الرَّسولُ بولس أنَّ العهدَ الحقيقي الَّذي يقودُ إلى الحياة هو ختانُ القلب بنعمة الرُّوح القدس وليس ختان الجسد أو الاكتفاء بالتَّمسك بطقوس الشَّريعة. فطاعة المسيحي للعهد القديم لن تتحقق بطاعة الشَّرائع والقوانين والانضمام لحروب الإبادة بل بتحوّل داخلي حقيقي في القلب. فالحرف دون هذا التَّحول القلبي سيقود إلى دينونة الإنسان وموته وليس إلى اختبار الحياة الإلهية. أمَّا الحرف بقيادة الروح القدس فسيقود إلى الـمسيح، رب الحياة.
بكلماتٍ أخرى، ليست المشكلة في الحرف بل في أهل الحرف الذين رفضوا دور العهد الجديد وعمل الرُّوح القدس. ولا يطلب منَّا الرَّسولُ بولس تجاهلَ العهد القديم بل تفسيرَه من منظورٍ كريستولوجي أو مسيحاني يتحدى عقلية التَّـهويد التـي حاربت مفهوم الرَّسول للعهد القديم.[5] ونحن نعيش في سياق يُسيء التَّعامل مع العهد القديم. وعندما نتمسك بالحرف دون المدلول الأعمق الذي يربطنا بالمسيح وبالعهد الجديد نفقد البوصلة اللاهوتية.[6]
العهد القديم بين الرفض النازي والقبول الصهيوني
هناك مَنْ يتجاهلُ العهدَ القديمَ، وهناك من يقرأه بصورةٍ مغلوطةٍ.[7] لقد قرأتْ الصَّهيونيةُ المسيحيةُ العهدَ القديمَ، لكي تُبـرر الشَّرعية الدَّينية لوجود دولة إسرائيل الحالية.[8] وسببَّتْ هذه القراءة الظُلمَ والإجحافَ للشَّعب الفلسطيني، والعثـرة للشُّعوب العربية والإسلامية. وسُفكت الدماء باسم العهد القديم. وتحوّلَ العهدُ القديمُ من كلمةِ اللهِ، إلى خطابٍ سياسيٍ يُبـررُ سلبَ الأرضِ باسمِ اللهِ. واقتـرحَ بعضُ اللاهوتيين في ألمانيا، أمثال أدولف فان هارنك (1851 - 1930)، إزالةَ العهد القديم من لائحة الأسفار القانونية، والابتعاد عن عقليته النَّاموسية المؤذية.[9] وتطور النقاشُ الألماني عندما اقتـرح فردريك ديليتش في بداية القرن العشرين، أنَّ الحضارةَ البابلية أسمى من كتابات العهد القديم، وأنَّـها من أصولٍ آرية.[10] واقتـرحَ أيضاً أنَّ سكانَ السَّامرة والجليل هم أصلاً بابليون من أصول آرية. ولهذا فإن يسوع نفسه، كما يزعم ديليتش، آريٌ وليس يهودياً. وقد وُلدت النَّازيةُ بدعم ديني يشملُ رفضَ العهدِ القديمِ.
بين الرفض النَّازي والقبول الصَّهيوني وُلدت المعاناةُ للفلسطيني ولليهودي. وأصرَّت الكنيسةُ على اعتبارِ العهد القديم كتاب الكنيسة، وأصرّت على التمسك بقيم ملكوت الله في كل الكتاب المقدس. فمنذ بدعة ماركيون، دافعت الكنيسةُ عن قُدسية العهد القديم، وعن أهمية ربط أسفاره بالمسيح والرسل والكنيسة.[11] وللتبسيط ندعو القراءات الكنسية المتنوعة عبـر التَّاريخ بالقراءات المسيحية. وهكذا ذكرنا عدة مقاربات، وهي القراءة الصَّهيونية، والقراءة النَّازية، والقراءات المسيحية.[12] وتؤثر هذه القراءات على سياقنا الفلسطيني والعربي اليوم.
ويبقى السُّؤال: كيف يطيع المسيحيون العهد القديم وما هي رسالته لنا كمسيحيين؟ وهل يستطيع الإنسانُ المسيحي أنْ يختلفَ مع العهد القديم في ضوء المعنى الأوسع، دون أن يرفض شرعية نصوصه؟ أفضلُ طريقة لاكتشاف الجواب هي مراقبة السَّيد المسيح وكيفية تعامله مع العهد القديم. فهل اختلف السَّيدُ المسيح مع المعنى الأضيق للعهد القديم؟ اعتقد أنَّ هذا السؤال هو في جوهر النقاش، لا سيَّما أنَّ المسيح هو مفتاح أساسي لتفسير العهد القديم عند الإنسان المسيحي.
العهد القديم في ضوء ستة أمثلة من حياة السَّيد المسيح
لهذا سأتحدَّث عن ستة أمثلة من حياة السَّيد المسيح، لم يقبل فيها تأوين حرفية المعنـى الأضيق للعهد القديم، أي أن السَّيد المسيح لم يقبل أن النَّص القديم يسري عليه الآن حرفياً. وسأستنبط من هذه الأمثلة، بعض المبادئ الَّتي قد تُعيننا في قراءة العهد القديم اليوم. وأفتـرضُ أنَّ موقفَ المسيح من نصوص العهد القديم، مرشدٌ لنا في تحديد مواقفنا من نفس النُّصوص، ومن نصوص أخرى. ويمكن تلخيص المبادئ السِّتة بالعبارات التَّالية: (1) مكتوبٌ أيضاً، (2) أما أنا فأقول لكم، (3) السَّبت جُعل لأجل الإنسان، (4) سمح الله ... لقساوة قلوبكم، (5) ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان، و(6) الله روح.
1- مكتوب أيضاً
أولاً، المبدأُ الأوَّلُ هو "مكتوب أيضاً". يُظهر القديس متى أنَّ العهد القديم قد يكون أداةً في يد الشِّيطان.[13] ففي الفصل الرَّابع من بشارة القديس متَّى، يقتبسُ الشَّيطان المزمور 91 ليُجرّب السَّيد المسيح. فيقول له: "مكتوب: أنَّه يوصي ملائكته بك، فعلى أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجرٍ رجلك" (مت 4: 6).[14] ويفسر الشَّيطان العهدَ القديم مناقضاً المقاصد الإلهية. لم يعطنا الله هذه النَّص لنبـرر المواقف التـي نجرب بها الرَّب. ولقد تجاهل الشَّيطانُ نصوصاً أخرى في الكتاب المقدس مثل قول الرب "لا تجربوا الرب إلهكم كما جربتموه في مسّةَ" (تثنية 6: 16). ويصف الرَّسولُ بولس سلوك شعب إسرائيل في البرية قائلاً: "لا نجرّب المسيح كما جرب أيضا أناس منهم فأهلكتهم الحيات" (1 كورنثوس 10: 9). وعندما ردَّ السَّيد المسيح على إبليس، بيّنَ أنَّنا يجب أنْ نقرأ نصوصَ العهد القديم معاً. إذ قال له: "مكتوب أيضاً" (مت 4: 7). فجمع المسيحُ أكثـرَ من نصٍ معاً، ليُقدمَ فهماً أفضل يعكس نوايا الله. وهكذا أظهر أنَّ العهدَ القديم يحتاجُ إلى التَّفسير.
بكلمات أخرى، يجب تفسير النُّصوص في حوار مع نصوصٍ أخرى داخل الكتاب المقدس. فقد يقود عزلها عن باقي النُّصوص إلى سوءِ التَّفسير. لمْ يرفض المسيحُ النَّص الَّذي استخدمه الشَّيطان، بل أعاد تفسيره عندما وضعه في إطار نصوصٍ أُخرى. وهكذا تطور التَّفسير الذي يستلزم حواراً بين نصوص كلِّ الكتاب المقدس، بهدف تفسير آية واحدة بصورة أشمل وأدق. لا شكَّ أنَّ العهدَ الجديد لم يكن مكتوباً عندما جرَّب الشَّيطانُ السَّيدَ المسيح، ولهذا نحصر المعنى التَّاريخي للعبارة "مكتوب أيضاً" في العهد القديم، إلا أنَّ مبدأ "مكتوب أيضا"، يشمل كلمة الله في العهد الجديد. ونرى مئات بل آلاف الاقتباسات والإشارات المأخوذة من العهد القديم، في حوار مع كتابات العهد الجديد.[15] وهي ضمن مبدأ "مكتوب أيضاً". بكلمات أخرى، الطريق إلى بناء عقيدة أو قناعة إيمانية بقضية ما مرتبط بكل الكتاب المقدس وليس بآية واحدة منفردة. ويجب التَّشاور مع الأسفار من تكوين وحتى رؤيا بهدف الوصول إلى قناعة محددة بالأمر الذي ندرسه.
2- سمعتم أنه قيل، أما أنا فأقول
ثانياً، المبدأ الثَّاني هو "سمعتم أنه قيل . . . أما أنا فأقول".[16] مفتاحُ المعنـى الأوسع والأوضح هو قول وموقف السَّيد المسيح. فحسب عقيدة توسّع الإعلان، فإن إعلانات العهد القديم لا تكتمل إلا بالمسيح. وبدون المسيح قد نضل في فهمنا للعهد القديم. قال السَّيد المسيح للصدوقيين: "أليس لهذا تضلون، إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله؟" (مر 12: 24). وقدَّم القديسُ متى في الموعظة على الجبل ستة أمثلةٍ يربطها عددٌ من المفسرين مع العهد القديم.[17] ومن خلال هذه الأمثلة، الَّتي نجد فيها مقارنةً بين موقفين، نكتشف سلطة المسيح في تشكيل وتعميق فهمنا لإرادة الله وإعلانه، إذ يقول النَّص: "سمعتم أنه قيل . . . أما أنا فأقول". ويكشف لنا السَّيد المسيح من خلال هذا المبدأ، أنَّ الوصية مرتبطة بالقلب وليس بالسُّلوك فحسب. فيجب أن يكون القلبُ ممتلئاً بالولاء والحب لله، وهذا ما يؤكده ربنا يسوع المسيح. وهكذا تصبح مشكلةُ القتل، والزنى، والانتقام، أو أي مشكلة أخرى، مشكلةً تتعلق بالقلب والولاء الكامل لله بحسب إعلانه. بكلماتٍ أخرى، يجب قبل أن نطيع وصايا العهد القديم، أن نكتشف موقف المسيح منها، وعلاقتها مع مواقفنا القلبية، فولاؤنا لله مرتبط بالولاء للمسيح. فإذا قرأنا آية في العهد القديم، يجب أن نتساءل ما موقف المسيح منها. ولهذا يُشكل اللاهوت عنصراً مهماً في تفسير العهد القديم. مرةً أخرى، لم يرفض المسيح نص العهد القديم، بل وسَّعه ووضَّحه وربطه بشخصه وبالقلب الصَّحيح.
3- السَّبت جُعل لأجل الإنسان
ثالثاً، المبدأ الثَّالث هو "الوصية من أجل الإنسان". نجد هذا المبدأ في متى 12: 1-13.[18] يستطيع المسيحي الَّا يُطيع حرفية العهد القديم أو المعنى الأضيق، عندما تتعارض الحرفية مع مبدأ "من أجل الإنسان". لقد جاع التَّلاميذُ يومَ السَّبت، فقطفوا سنابلَ القمح وأكلوا. اعتـرض الفريسيون لأنَّ التَّلاميذ يعملون ما لا يجوز فعله في السَّبت. وعندما شفى المسيح إنساناً يده يابسة يومَ السَّبت، اعتـرض الفريسيون مرةً أخرى. فجادلهم المسيحُ، وعلّمهم أنَّ إنقاذ حياة الإنسان عملٌ مشروعٌ يوم السَّبت، فيجب ألَّا يتقيَّد الإنسانُ بحرفية الوصية، وينسى الأولويات الإلهية. فمن أجل حياة الإنسان وإنقاذه، يجوز أنْ نكسرَ قوانين السَّبت، إذ يحلُّ فعلُ الخيـر والرَّحمة يومَ السَّبت. ويشرح السَّيد المسيح أنَّ داودَ كسر قوانين الكهنوت دون أن يكون مُدانا (1 صموئيل 21: 1 - 6)، لأنَّ حياته كانت في خطرٍ. وهكذا نضع الوصايا الإلهية في تراتبية تعكس الأولويات الإلهية.
ولقد استنبط المسيحُ هذا المبدأ بسبب الاستثناءات. فمثلا، يُدنِّس الكهنةُ يومَ السَّبت في الهيكل، وهم أبرياءٌ إذ يقدمون الذَّبائح (مت 12: 5؛ عدد 29: 9 - 10). ويسمح المسيحُ بكسر قوانين السَّبت بسبب مجيئه وطلب الرحمة (مت 12: 6 - 7). وهكذا يجوز أن نتغاضى عن حرفية بعض الوصايا، عندما يكون الأمر مبـرراً بمبدأ "من أجل الإنسان". ويرتبط هذا المبدأ بخلاص الإنسان وقداسته عندما يكون بريئاً في نظر الله. لقد أكَّد السَّيدُ المسيح أنَّ وصايا العهد القديم هي موجزة في أهم وصيتين، أنْ تُحب الله وأنْ تُحب القريب (مت 22: 37 - 40). وهكذا يجب أنْ يكون مفهومُ مبدأ "من أجل الإنسان" متجذرا في محبة الله والقريب، كما يُعلنها الكتاب المقدس.
بإيجاز، المسيحي غيـر مضطر إلى طاعة حرفية النَّص المذكور في العهد القديم، عندما تُشكل هذه الطاعة تضارباً مع مبدأ "من أجل الإنسان". ولقد استخدم اليهود التراتبية في الوصايا لتبرير عدم نقض الوصية الأقل أهمية. فمثلا، جعل اليهود الختان أهم من السَّبت. فمن المفروض أن يُختتن الإنسان في اليوم الثَّامن بعد ولادته حتى وإن كان ذلك اليوم سبتاً. استخدم المسيح هذا المبدأ حين قال لليهود: "في السبت تختنون الإنسان. فإن كان الإنسان يقبل الختان في السبت، لئلا يُنقض ناموس موسى أَفَتَسْخَطُون عليَّ لأن شفيت إنسانا كُلَّه في السبت؟ لا تحكموا حسب الظاهر بل احكموا حُكما عادلاً" (يوحنا 7: 23 - 24). إنَّ المحبة هي الوصية الأعلى والأهم وإن تعارضت أي وصية مع وصية المحبة فإننا نستطيع أن نستند إلى تفضيل الوصية الأهم في سبيل تمجيد الله وخدمة الإنسان.
4- سمح الله، لقساوة قلوبكم
رابعاً، بعض وصايا العهد القديم سُمح بها، ونحن غيـر مطالبون بها. سمح اللهُ بهذه الوصايا بسبب قساوة قلوب النَّاس، وهي ليست جزءاً من التَّصميم الإلهي الأصلي. فعلى سبيل المثال، جادل الفريسيون السَّيد المسيح قائلين: إنَّ موسى سمح بالطلاق. ربما استند الفريسيون إلى سفر التَّثنية (تث 24: 1 - 4). كان ردُّ الرَّب يسوع المسيح عليهم، بأنَّ السَّببَ في سماح موسى، هو قساوةُ قلوب البشر وليس التَّصميم الإلهي. فقد خلق اللهُ الإنسانَ ذكراً وأنثى وجمعهما معاً. وما جمعه اللهُ لا يفرقه إنسانٌ (مت 19: 1 - 9).[19] لم يرفض السَّيدُ المسيح النَّصَ أو التَّفسير الفريسي، بل وضَّح أنَّ التَّصميمَ الإلهي له سُلطةٌ أعلى من الوصايا التي جاءت نتيجة لضعف الإنسان. ولهذا نحتاج أن نفقه لا الوصية فحسب، بل سبب نزولها، ونقارنها مع تصميم الله في باقي الكتاب المقدس. ليست كلُّ الوصايا ملزمةً لكل زمانٍ ومكانٍ، وليست كلُّ الوصايا ملزمةً لكل البشر. لقد صمَّم اللهُ الزواج بين رجلٍ وامرأة مدى الحياة، إلَّا أنَّ قساوة قلب الإنسان تطلبت ترتيباً آخر، للحفاظ على الرَّحمة والرَّأفة والعدالة وللعناية بالضَّعيف. وهكذا نرى أنَّ بعض وصايا العهد القديم وقتية، وليست انعكاسا للتصميم الإلهي لخليقته.
5- ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان
خامساً، يشرح لنا القديسُ مرقس، أنَّ المسيحي غيـر مُلزمٍ بشرائع الطعام المذكورة في العهد القديم. أوضـح العهدُ الجديد أنَّ الطهارة لا ترتبط بالطَّعام بل بالقلب. ويُشكل هذا الافتراض قراءتنا لسفر اللاويين ولشرائع الطعام. فالحفاظ على شرائع الطعام الموسوية ليس ضرورياً أو ملزماً للمسيحيين. أما الحفاظ على القلب الطَّاهر فهو أمرٌ ضروري. وقد جادل الفريسيون والكتبة السَّيدَ المسيح بهذا الأمر في الفصل السَّابع من إنجيل مرقس. فقد اتهموا تلاميذه بعدم السُّلوك بحسب شرائع الطعام. فعلَّمهم أنَّ القلبَ أهمُّ من المعدة عند الله. والعبادةُ من القلب أهمُّ من الحفاظ على شرائع الطعام. ويُعلّق أحد المفسرين بأنَّ يسوعَ لمس الأبرص (مر 1: 41)، ولمس جثة (مر 5: 41)، ولمسته امرأةٌ نجسة (مر 5: 27 - 28)، وأكل مع الخاطئين (مر 5: 17)، وذهب إلى مقبـرة حيث توجد الخنازير (مر 5: 1 - 11)، ومع كل هذا لم يتنجس![20] ولهذا نستطيع إعادة تفسير العهد القديم، في ضوء هوية المسيح وعمله. وهكذا نرى أنه يمكن إلغاء الطاعة الحرفية لقوانين معينة سادت في العهد القديم.
6- الله روح
سادساً، تحاور يسوع مع المرأة السَّامرية حول العهد القديم. وكان موضوع الحوار هو مكان العبادة أو الهيكل. فهل التـزم السَّيدُ المسيح بحرفية الوصايا الجغرافية المقدسة في العهد القديم؟ لاحظوا معي أن جوهر "النُّصوص القومية" مرتبط بالجغرافية المقدسة. لم يقتبس المسيح آية محددةً، بل حوّل النّقاش في اتجاه آخر، فتحدَّث عن الخلاص وعن طبيعة الله. وأضاف أنَّ طبيعةَ العبادة مرتبطةٌ بطبيعة المعبود. فإن كان اللهُ روحاً، فعبادته بالرُّوح. وإن كان هو الإلهُ الحقُّ، فعبادته بالحق. وأقول أيضاً إن كان الله محبة فعبادته بالحب واجبة.
خاتمة
وأخيـراً، حاولت في هذا المقال أن أجيب عن سؤال مهم وهو قراءة العهد القديم في السّياق الفلسطيني فبدأت الخوض في قضية مهمة وهي قبول قانونية العهد القديم رغم الاعتراض على تطبيق كل أجزاءه حرفياً. وسكبت جُل اهتمامي في إبراز قضية واحدة في قراءتنا للعهد القديم. جادلت أنَّ العهد القديم هو كلمة الله الموحى بها وهو إنجيل السَّيد المسيح. ورغم ذلك أظهرت أنَّ السَّيد المسيح نفسه اعتـرض على التَّطبيق الحرفي للعهد القديم في عدة مواقف. ولقد استخدم عدة مبادئ مفيدة لنا وتساعدنا في قراءة العهد القديم كمسيحيين. ويمكن تلخيص هذه المبادئ بالعبارات التَّالية: (1) مكتوب أيضاً، (2) أما أنا فأقول لكم، (3) السَّبت جُعل لأجل الإنسان، (4) سمح الله ... لقساوة قلوبكم، (5) ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان، و(6) الله روح. وتحدثت عن هذا المبادئ بشكل مفصل.
في ضوء الأمثلة التي قدمها السَّيد المسيح، نستطيع الاستنتاج إن السَّيد المسيح، لم يقبل التفسير الحرفي لنصوص العهد القديم، عندما يعارض هذا التفسير المبادئ المُعلنة في العهد الجديد. واعتـرض على تأوين حرفية هذه النصوص، في ضوء الإعلان الكريستولوجي لملكوت الله. وقد فعل ذلك دون أن يرفض شرعية نصوص العهد القديم. ونستطيع نحن أيضاً، أن نتبع السَّيد المسيح في اعتراضه. فليست القضية هي الطاعة الحرفية، بل تفسير النَّص. ونستطيع أن نرفض طاعة المعنـى الحرفي أو الأضيق للعهد القديم في ضوء المعنـى القانوني والكريستولوجي. ورفضنا أن نطيع النَّص حرفياً لا يعني رفض وحيه أو سلطته، بل وضعه في مخطط الخلاص الإلهي وضمن لاهوت العهدين معاً. فليست القضية سؤالاً حول قانونية النَّص أو شرعيته، بل حول تفسيره من منظور مسيحي.
[1]For a helpful discussion see David Baker, Two Testaments, One Bible: The Theological Relationship Between the Old and New Testaments (Downers Grove: InterVarsity Press, 2010).
[2]The question of the meaning of meaning is a vexing hermeneutical question. For further details see Kevin Vanhoozer, Is There Meaning in This Text? (Grand Rapids: Zondervan, 2009).
[3]Richard Winston, “Christ the End of the Law: The Interpretation of Romans 10:4,” Puritan Reformed Journal 7 (2015): 18-41; Ira Jolivet, “Christ the ΤΕΛΟΣ in Romans 10:4 as Both Fulfilment and Termination of the Law,” Restoration Quarterly 51 (2009): 13-30.
[4]James Dunn, “The Letter Kills, but the Spirit Gives Life (2 Cor 3:6),” Pneuma 35 (2013): 163-179. See also Randall Gleason, “Paul’s Covenantal Contrasts in 2 Corinthians 3:1-11,” Bibliotheca Sacra 154 (1997): 61-79.
[5]Ibid., 66.
[6]Baker provides a helpful discussion presenting the different schools of thought that address the theological relationship of the two testaments. David Baker, Two Testaments, One Bible: The Theological Relationship Between the Old and New Testaments (Downers Grove: InterVarsity Press, 2010).
[7] يعتمد هذا النص على مقال نشرته سابقا. للمزيد من المعلومات راجع، حنا كتناشو، "لماذا أقرأ العهد القديم؟ حوار مع القس نعيم عتيق،" الصفحات 98 – 115 في نحو ذهن متجدد. تحرير منذر اسحق وبطرس منصور. الناصرة: كلية الناصرة الإنجيلية، 2021.
[8] للمزيد من المعلومات حول التبريرات الدينية للصهيونية المسيحية والرد عليها، راجع: حنا كتناشو، أرض المسيح: صرخة فلسطينية (بيت لحم: كلية بيت لحم للكتاب المقدس، 2016). راجع أيضا كتاب سايزر الذي يتحدى الصهيونية، وكتاب ماكديرموت الذي يدعمها بحُلة جديدة.
Stephen Seizer, Christian Zionism: Road to Armageddon (Downers Grove: IVP, 2004); Gerald McDermott, ed., The New Christian Zionism (Downers Grove: IVP, 2016).
[9] حنا كتناشو، "النازية والعهد القديم،" comeandsee 2019. إنترنت: http://www.comeandsee.com/ar/post/2936360.
[10]Bill Arnold, Introduction to the Old Testament (New York: Cambridge, 2014), Kindle Loc 508-520 out of 11819.
[11]قال ماركيون إن العهد القديم كتابٌ يهوديٌ وليس مسيحياً. وبرز هذا الموقف منذ ماركيون الذي أدانته الكنيسة. جاء ماركيون سنة 140 ميلادية إلى روما، وأصبح عضوا في الكنيسة هناك، وفصل بين إله العهد القديم وإله العهد الجديد. وجادل ماركيون أن إله العهد القديم هو إله الحرب وإله العين بالعين، بينما إله العهد الجديد هو إله السلام وإله الغفران والمحبة. وبينما سعى يشوع إلى استخدام العنف، منع يسوع استخدامه. بإيجاز، رفض ماركيون شرعية العهد القديم. ويجادل أتباع ماركيون أن العهد القديم هو كتاب يهودي وليس كتابا مسيحيا. وهكذا بدأت البدعة الماركيونية. للمزيد من المعلومات راجع:
Philip Schaff, History of the Christian Church: Ante-Nicene Christianity, A.D. 100-325 (Charleston: Forgotten Books, 2017), Kindle Edition, Loc 12006-12121 out of 21859.
[12]لا شك أن هناك قراءات أخرى للعهد القديم، مثل القراءة العلمية (علوم النقد العالي)، والقراءات الأكاديمية المتنوعة، والقراءات "الفمينست" وغير ذلك. إلا أن هدفي محدود بالسياق الفلسطيني والعربي، وهو سياق سياسي واجتماعي وكنسي. للمزيد من المعلومات راجع
Gerhard Hasel, Old Testament Theology (Grand Rapids: Eerdmans, 1991); Brittany Kim and Charlie Timm, Understanding Old Testament Theology: Mapping the Terrain of Recent Approaches (Grand Rapids: Zondervan, 2020).
[13] ينطبق هذا الأمر على العهد الجديد أيضا.
[14]For further reflection see Jacques Roets, “The Victory of Christ over the Tempter as Help to the Believers Fight Against Sin: A Reflection on Matthew 4:1-11,” Mid-America Journal of Theology 22 (2011): 107-127; William Stegner, “The Temptation Narrative: A Study in the Use of Scripture by Early Jewish Christians,” Biblical Research 35 (1990): 5-17.
[15]For further discussion see Walter Kaiser, Kenneth Berding, Darrell Bock, and Peter Enns. Three Views on the New Testament Use of the Old Testament. Grand Rapids: Zondervan, 2009; Moyise, Steve. Jesus and Scripture: Studying the New Testament Use of the Old Testament. Grand Rapids: Baker Academic, 2011.
[16]For further information see Matthew Goldstone, “The Structure of Matthew’s Antitheses in Light of Early Jewish, Christian and Rabbinic Sources,” Journal for the Study of the New Testament 40 (2017): 218-220; Glen Stassen, “The Fourteen Triads of the Sermon on the Mount (Matthew 5:21-7:12),” Journal of Biblical Literature 122 (2003): 283-285.
[17]Some helpful books about the Sermon on the Mount are: Leo Tolstoy, The Kingdom of God Is within You. North Charleston: CreateSpace Independent, 2013; John Stott. The Message of the Sermon on the Mount. Leicester: InterVarsity, 1992; Martyn Lloyd Jones, Studies in the Sermon on the Mount. Grand Rapids: Eerdmans, 1976.
[18]For further details about how the Matthean community interpreted the Sabbath law see Jae Hyung Cho, “The Sabbath Law Controversy between the Matthean Community and Formative Judaism (Matt 11:28-12:14 and 24:20),” Canon & Culture 11 (2017): 179-200.
[19]For further discussion see Jason Lee, “The Reformers Interpretation of Jesus’ Teaching on Divorce and Marriage,” Midwestern Journal of Theology 15 (2016): 37-65; Wayne House, and J. Carl Laney. Divorce and Remarriage: Four Christian Views. Downers Grove: InterVarsity Press, 1990.
[20]R. A. Guelich, Mark 1-8:26 (WBC 34A; Dallas: Word, 1989), 371.