إن قدرتنا على اختيار السلام والمحبة في علاقاتنا المختلفة هي ما تميّزنا عن الحيوان وقانون الغاب. حسّ الإدراك، والوعي، والمحاسبة الذاتية، هي مهارات يتعلّمها الإنسان بمرور الناس على حياته. يتعلّمها من المواقف والتفاعلات الاجتماعية بكل أنواعها، بدءًا من لحظات ولادته الأولى وحتى مماته. هي سيرورة. إذ يولد المرء بغرائز طبيعية لا يحتاج معها للمجاهدة في سلوكه، بل هي تصرّفات مولودة معه وجزء لا يتجزّأ من طبيعته البشريّة، كغريزة الرضاعة. ولكن عندما تعطي الرضيع أن يختار بين نوعين من الحليب، تجده يختار، ويطور لديه مهارة التواصل إذ يبكي أو يدير وجهه للطرف الآخر أو حتى قد يزمّ شفتيه بقوة عندما لا يعجبه المذاق ويرفض أكله. ومع الوقت تتطور هذه المهارة لتشتمل على الكلمات بالإضافة للغة الجسد... وضع الله منذ البدء الإنسان أمام اختيار، إذ لم يفرض أي أمر عليه. فقد اختار آدم أن يتذوق التفاحة، بوعي كامل منه وبإدراك. غير مُجبر! وبطبيعة الحال، أمام كل خيار نتخذه، هنالك نتيجة علينا أن نتحملها وأن نتعامل معها بمسؤولية ووعي.
لقد أوصانا الله بأن نحب بعضنا البعض: "فَأَحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا مِنْ قَلْبٍ طَاهِرٍ بِشِدَّةٍ." (1 بط 1: 22). هي وصية، وكغيرها من الوصايا، تحمل في ثناياها رسالة سلام ومصالحة. في عالمنا نجد أنفسنا أمام العديد من المواقف التي تضعنا في وضعية خلاف ومشاحنة، وهذه المواقف تضعنا أمام عدّة اختيارات: إمّا المصالحة وكسب الشخص والعيش بسلام، أو الخلاف وخسارة الشخص والعيش بضيقة نفسية، أو التجاهل وحمل الضغينة في النفس... وبطبيعة مجرى أحداث حياتنا اليوم، تجد جلّ اهتمام الفرد هو البحث عن سكينته وهدوئه النفسي وبأي ثمن، حتى لو كان هذا الثمن هو خسارة عزيز. فالضغوطات اليومية، والواجبات والالتزامات المادية والاجتماعية والمتطلبات اللا متناهية وصلت بالإنسان إلى وضع يشعر فيه بالاختناق تحت تراكمات وزحام الأيام، وتجده يُجبر نفسه تحت وطأة هذه الأوزار، وبهدف حماية صحته العقلية والنفسية والجسدية، يختار أن يشطب البعض من قائمة أولوياته ليتمكن من الاستمرار في سعيه مع حمل أخف ثقل! ونرى معظم المبادرات والتعاليم العصرية اليوم وتحت مسمى التنمية البشرية، تتعالى أصواتها بالنصائح في أن تكن أولويتك هي أنت قبل أي شيء آخر لتتمكن من العيش بسلام.
فهل تتناقض هذه الأولوية مع وصية الله بأن نحب بعضنا البعض بشدة؟ وبأن نسالم بعضنا البعض؟
كلا، بل هما رسالة واحدة لكن بأعماق متفاوتة. إن صحتك وسلامتك النفسية يجب ومهم أن تكون دومًا هي أولوية في حياتك، إلاّ أن ذلك لا يعني بأن تدير وجهك أمام كل مشاحنة او سوء فهم بينك وبين الآخر، ولا أن تُرخِّص من قيمة هذه العلاقة أو تمنع نفسك عن الاستثمار فيها لفترة أطول. إذ نجد اليوم بأن الكثيرين يبيعون صداقات وعلاقات جمعتهم على مرّ السنين أمام تصلّب قلوب وقسوة فكر وغرور ذاتي. أصبح الأخ يبيع أخاه بكل رخص وسهولة ويكمل دربه كأن شيئًا لم يكن...!
وصية الله لنا كانت ولا تزال بأن نغفر بعضنا لبعض، لا مرة ولا اثنتان... بل سبعين مرة سبع مرات: "قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لاَ أَقُولُ لَكَ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ، بَلْ إِلَى سَبْعِينَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّاتٍ." (متى 18: 22). أي لا تتنازل عن عزيز وتمضي امام مشاحنة ومشاحنتين وثلاث وحتى ألف... بل ان تستمر بالمسامحة وبالسعي والمبادرة بكل محبة نحو المصالحة والسلام بالعلاقات، دومًا ، كي تكون مرضيّ أمام الله وتنعم بعلاقة صحيحة معه وببركاته على حياتك، دون أن تُعاق صلواتك... ولكن... وهنا أشيد بك أن تنتبه لكلمة "ولكن"... افعل ذلك على قدر استطاعتك. فقد قال لنا الله: "إِنْ كَانَ مُمْكِنًا فَحَسَبَ طَاقَتِكُمْ سَالِمُوا جَمِيعَ النَّاسِ." (رومية12:18). الجميل بالأمر هنا هو أن طاقة الانسان متجددة يوميًّا، خصوصًا اذما كان ملتصق بالله. ومع ذلك، قد تبادر بمحاولات مصالحة ومسالمة عديدة، وتجد أن الأمر معرقل والطريق مسدود بينك وبين الاخر وكل محاولاتك لم تُجدِ. ماذا تفعل إذًا؟
يقول الرب لنا: "كُونُوا حُكَمَاءَ كَالْحَيَّاتِ وَبُسَطَاءَ كَالْحَمَامِ." (متى 10: 16). يعود بنا إلى نقطة الأساس، الإختيار. أن نختار "حكمة الحية" وليس خبثها ولا مكرها; وأن نختار "بساطة الحمام" لا سذاجتها. ففي كل علاقاتنا هذا هو المفتاح وهذا هو السر لسلامنا النفسي وعلاقتنا المرضيّة بالله. واجبك كحبيب الله بأن تبادر بالمصالحة، حتى لو أنت المظلوم في الموقف، فهذه وصية، ولكل وصية هدف سامي وجميل ومكافأة طيبة. ولكن، في حال أنك قمت بكل ما يجب عليك القيام به، وببساطة ووداعة ومحبة الحمام النقيّة، ومع ذلك تجد بأن الطرف الآخر لم يُغيّر من صلابة موقفه معك، إذًا كل ما تبقى عليك فعله هو التصرف بحكمة الحية وتنسحب من حياته، وبذلك تترك شأن الخلق للخالق. أن تنسحب من هذه العلاقة بعد المحاولة على إبقائها لا يعتبر فشل بل هو انتصار كبير ونضوج. فالله لا يريد ولا يقبل أن نُذلّ في العلاقات. بل على العكس، هو يريد ويعمل على أن يجلسنا في أعلى المراتب قيمة وقربًا لقلبه: "يُقِيمُ الْمِسْكِينَ مِنَ التُّرَابِ. يَرْفَعُ الْفَقِيرَ مِنَ الْمَزْبَلَةِ لِلْجُلُوسِ مَعَ الشُّرَفَاءِ وَيُمَلِّكُهُمْ كُرْسِيَّ الْمَجْدِ." (1 صموئيل 2: 8). فأنت عزيز وغال على الله. وعندما تبادر وتحاول وتُصلّي بمحبة من أجل هذه العلاقة ولم يحدث تغيير فيها، تنسحب بسلام كامل مدركًا أنك فعلت كل ما بإمكانك فعله. هنا أقول لك امضِ بسلام وطمأنينة وثقة أنك اخترت ان تفعل ما يرضي الله أولا، وما يرضي قلبك ثانيا، وهذا كل ما تقدر أن تفعله. فهنالك دائمًا محدودية لقدرتنا، ومن المهم أن ندرك وان نميز هذا الحد وألاّ نتخطاه كي لا تهن نفسنا علينا ولا على الله. من المهم أن نميز متى نحاول مرة أخرى بمبادرة السلام ومتى ننسحب من العلاقة ونثق بأن الله يتوكل الأمر، إذ قال: "لاَ بِالْقُدْرَةِ وَلاَ بِالْقُوَّةِ، بَلْ بِرُوحِي قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ." (زكريا 4:6 ).